فكرية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

التدرج في تطبيق الشرع ليس طريق التغيير الحقيقي

 

 

إن فكرة التدرج في تطبيق أحكام الله في الأرض هي من أخطر الأفكار الدخيلة على الإسلام. فليس هناك أي دليل أو إثبات أن الرسول ﷺ قد أجَّل تطبيق بعض الأحكام، أو أنه قد طلب من صحابته تطبيق أحكام وأباح لهم تأجيل أخرى حتى يُفهم من ذلك أنه تدرج. وكذلك لم يرد أن الصحابة رضوان الله عنهم قد فعلوه. فكل حكم شرعي كان يتنزل، كان يطبق فوراً. فالإسلام كان انقلاباً جذرياً شاملاً في حياة المسلمين.

 

ويتضح من الأدلة التي يستدل بها دعاة التدرج أنها لا تتبع الطريقة الصحيحة في الاستنباط، فهم لم يستنبطوا من الأدلة الشرعية بعد دراستها أن التدرج جائز، بل واضح أنهم قرروا أن التدرج ضروري ثم أخذوا يبحثون عن الأدلة على جواز ذلك ويضعونها دون التحقق من انطباقها على واقع المسألة المستدل عليها؛ فنشروا فكرة التدرج، ما من شأنه أن يُعيق عمل العاملين المخلصين للإسلام ويقلل من عزائمهم، ويبعدهم عن مواقف الحق، فتأتي الانبطاحية والتخاذل، وقبول الدنية في الدين، والتنازل عن الثوابت الشرعية في كل الأعمال السياسية لدرجة أن من يطبق أحكام الكفر تحت ذريعة التدرج يُوصف بالمعتدل، ومن يناهضها يُنعت بالتطرف والأصولية!

 

فالتدرج في تطبيق الإسلام، وذلك بتطبيق جزء وترك جزء آخر، لا يجوز شرعا، وأدلة ذلك قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، كما يتضح في قوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ﴾. وقد رفض النبي الكريم ﷺ دعوات زعماء قريش له بالتنازل ولو عن القليل من أحكام الله. وهذا ما كان عليه الخلفاء من بعده في تطبيق أحكام الإسلام على البلاد المفتوحة. فقد كان تطبيقهم للأحكام رضي الله عنهم دفعةً واحدةً، دون تأخير أو تسويف أو تدرج. فلم يكونوا يسمحون لمن دخل في الإسلام أن يشرب الخمر أو يزني سنة مثلاً ثم بعد ذلك يُمنع، بل كانت الأحكام تطبق كلها.

 

وإن حجة البعض في التدرج أن تحريم الخمر كان على مراحل عدة ليست صحيحة، وتحريمه بهذه الطريقة كانت من الله تعالى، وكان المسلمون يلتزمون بالحكم فور نزوله، فحكم الشرع في تجنب السكارى للصلاة قد التزمه المسلمون فوراً ولم يقترب أي منهم من الصلاة سكران، وعندما حرمت تماماً لم يتدرج أي منهم في الإقلاع عنها، بل كان إقلاعهم عنها فورياً، حيث سكبوا ما بأيديهم أو عندهم من خمر فور أن أتاهم تحريمها. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يعلّق حد السرقة ولم يتدرج في تطبيقه بل عمل وفق الحكم الشرعي بعدم إيقاع حد السرقة على من سرق في مجاعة.

 

وحاليا الشريعة كلها بين أيدينا، والمطلوب منا أن نطبقها كلها، ويكون هذا عن طريق التغيير الجذري الشامل لكل مناحي الحياة الذي تطبقه دولة الإسلام، دولة الخلافة. وليس كما يدّعي دعاة التدرج أنه لا يتأتى تطبيق أحكام الإسلام دفعة واحدة ولذلك لا بد من تطبيق الأحكام شيئاً فشيئاً، وبعبارة أخرى تطبيق أحكام الكفر في بعض المسائل وأحكام الإسلام في بعض المسائل!! إن هؤلاء يتذرعون أنهم لا يستطيعون تطبيق الإسلام كله بسبب ما نعيشه من سيطرة الغرب وضعف بلاد المسلمين، وأن تطبيق بعض الأحكام أفضل من عدم تطبيقها كلياً!! والحاكم الذي يحكم كذلك في نظام كفر ويطبق بعض الأحكام الشرعية يكون إما كافراً أو ظالماً أو فاسقاً حسب ما جاء في القرآن الكريم بمن لا يحكم بما أنزل الله، مهما حاول أن يجمّل صورته ويخدع الناس أنه يعمل للإسلام.

 

فلو نظرنا لبعض الجماعات الإسلامية "المعتدلة" والتي منها ما وصل لسدة الحكم، لرأينا أنها لم تستهدف تحكيم دين الله وشريعته، وإنما هي تنظر إلى مناصب الحياة الدنيا في الحكم دونما اعتبار لأحكام الله، بل يستخفون ويحاربون دعاة الإسلام الذين يطالبون بتطبيق شامل لأحكام الله، ومنهم من يطبق الديمقراطية والعلمانية الكافرة!

 

ففي السودان مثلا وقبل الربيع العربي قيل عن تطبيق الإسلام في السودان بالتدرج، وامتدح ذلك من يسمون بالمعتدلين في البلاد الإسلامية، ليتبين بعد عقود بأن نظام البشير بعيد عن الإسلام كغيره من الأنظمة وإن كان دائم الكلام عن تطبيق الشريعة الإسلامية، وها نحن نرى الآن السودان ووضعها؛ دولة لا شريعة في حكمها، مقسمة، يعاني أهلها الفقر وهي غنية بمواردها المنهوبة!

 

وفي تركيا حيث سبق حزب العدالة والتنمية إلى الحكم غيره من أحزاب الإخوان المسلمين في الدول العربية، والذي يعتبره العديد نموذجاً للحكم المفقود! فلا ندري عن أي مثال يحتذى به! علمانية واضحة وتبعية للغرب ويهود لا تخفى على أحد، بينما يتكلم عن فتح مساجد ودور تحفيظ القرآن والسماح للمحجبات بالعمل، خادعا السذج بأنه يطبق الإسلام، بعد أن أغراهم بالنموذج الاقتصادي التركي!

 

وفي الأردن لا يناضل مثل هؤلاء المعتدلين القائلين بالتدرج من أجل الإسلام، إنما من أجل تغيير القانون الانتخابي حتى يتاح لأكبر عدد منهم دخول البرلمان الجديد، وتخلو كامل مطالباتهم من أي قيمة شرعية، فلا هم يضعون أحكام الشريعة (أو حتى جزءاً منها) على طاولة الشروط السياسية أو المطالبات ولا أي شيء من هذا القبيل!

 

وأما في مصر الكنانة، فقد قفزوا فترة إلى سدة الحكم والبرلمان، فماذا تغير وقتها باتجاه الإسلام؟! ولا يقول أحد لم يعطوهم الوقت الكافي. فالهدف كان هو إرضاء الغرب وليس إرضاء الله بحجة التدرج، ويبرهن ذلك الموقف وقتها من كيان يهود، واتفاقيات الغاز، وعدم نصرة أهل غزة إلا بالوساطة بينهم وبين يهود، والقروض الربوية، وغيرها مما هو محرم في الإسلام. ولا يعفيهم من هذا تشجيعهم لبعض العبادات والمظاهر الإسلامية.

 

ولتونس قصة أخرى، فعدا عدم الحكم بالإسلام فقد تمت مخالفة أحكام شرعية قطعية الثبوت في القرآن الكريم في النظام الاجتماعي الذي كان هو الوحيد المطبق فيه أحكام إسلامية، مثل قوانين المساواة في الميراث بين الذكر والأنثى وتجريم تعدد الزوجات، والحبل على الجرار بتطبيق بنود قوانين منبثقة من اتفاقية سيداو الخبيثة.

 

ومن الجدير بالذكر هنا أن أصحاب فكرة التدرج في تطبيق الشريعة هم الملاذ لدول الكفر الكبرى لتقديمهم للأمة بعد سقوط الأقنعة عن الوجوه التي كانت من العلمانيين بعد أن أصبح أهم مطلب للأمة تطبيق الإسلام، فعن طريق هذه الفكرة الخبيثة يطمئن المسلمون أن الحكم قد أصبح بأيدٍ أمينة تريد الإسلام لأن مظهرها إسلامي!

 

من هذا وغيره نوقن بطلان فكرة التدرج وأن التغيير التدريجي لن يؤدي أبداً إلى التغيير المنشود، وأن التغيير الحقيقي لن يكون إلا بالتغيير الجذري الشامل الكامل، وهذا لن يكون إلا بالخلافة التي تطبق الإسلام نظاماً ودستور حياة، نسأله جل وعلا أن نكون من شهودها وجنودها.

 

 

كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

مسلمة الشامي (أم صهيب)

 

آخر الإضافات