بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

النهضة التي نريدها للأمة

 

 

يقول الله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ فلا سبيل إلا سبيلان؛ سبيل الله عز وجل حاديه شرعُه المنزل، وسبيل المجرمين حاديه إبليسُ وأعوانه من الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. وقد شاءت حكمته سبحانه أن يظل هذان الفريقان متصارعين متناحرين يتصارعان بصور شتى وأشكال متعددة، من لدن آدم عليه السلام وإلى يومنا بفصول مختلفة ووسائل وأشكال متعددة متغيرة.

 

إن واقع الأمة اليوم وفي ظل غياب دولة الإسلام وحكمها بقوانين الغرب الرأسمالية، وتجهيلها بالقدر الذي جعلها لا تعرف دينها ولا تدرك ما علق بعقيدتها من أفكار الغرب فلا تستطيع تنقية هذه العقيدة ولا نزع الشوائب التي أدخلها المستعمر عليها وكساها ثوب الإسلام، كل هذا جعل لزاما على من يسعى للنهوض بالأمة أن يبدأ عمله من أفكارها فيحمل لها أولا أفكار الإسلام لتنقية عقيدتها وليضع لها طريقة تفكير صحيحة، تجعلها تطرد كل فكر دخيل، ويبني أفكار الإسلام بنقائها وصفائها وتبلورها، وهذا عينه ما قام به النبي ﷺ في مكة عندما صارع أفكار الكفر ولم يخضع لقوانينه وأفكاره وتقاليده بل كان لها محاربا متحديا تحديا سافرا، وقد نزل القرآن مبينا تلك الطريقة، فنبينا ﷺ لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، لهذا عاب أصنامهم وتطفيفهم الكيل والميزان ووأدهم للبنات وغير ذلك من الأفعال التي كانت تعبر عن أفكار الكفر والجاهلية الأولى لأهل مكة.

 

إن التغيير وتبدل الأحوال سنة كونية حتمية في حياة الأمم، والله مالك الملك يعز من يشاء ويذل من يشاء، فلماذا يعز أقواماً ويذل آخرين؟ وما الذي يجعلهم مستحقين لنعمة الله بالعز والتمكين أو لغضبه بالذل والانحطاط أو إمهاله لهم بتركهم في الغي حتى إذا أخذهم لم يفلتهم بل يأخذهم أخذ عزيز مقتدر؟

 

لقد بين الله عز وجل ذلك في قوله ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ فالذي يتغير في النفوس ليس الأعضاء الداخلية؛ ليست المعدة ولا الأمعاء ولا الرئة، وإنما التغيير في النفس أي في الأفكار والمفاهيم ونوعها وتأثيرها في الإنسان، فهل صار لها واقع مصدق وتحولت لمفاهيم تؤثر في سلوكه؟ وهل تحولت داخله إلى مقاييس وقناعات؟ وما نوع هذه الأفكار؟ وهل هي أفكار كلية تجيب على أسئلة العقل السليم بإجابات حقيقية تقنع العقل وتوافق ما في فطرة الإنسان من عجز واحتياج لخالق مدبر، أم أنها مجرد أجوبة توصل العقل إليها دون قناعة بها لمجرد ملء الفراغ الذي أوجدته تلك الأسئلة في داخله؟ وما هي تلك الأسئلة؟ وهل تستطيع الأجوبة التي لم تقنع العقل ملء الفراغ الناجم عنها؟ وكيف سيتعامل العقل معها؟

 

إذا كان الذي يتغير في الإنسان أفكاره وهي التي تدفعه نحو الرقي والنهضة فيجب أن تجيب هذه الأفكار على كل أسئلة العقل لضمان صلاحية تلك الأفكار للتأثير في السلوك الإنساني وتغييره لما هو أفضل، فيجب أن تفسر للإنسان كيفية الخلق وبداية الوجود الإنساني وماذا قبل الخلق وماذا بعد الموت وفناء الكون كله؟ وما هي السعادة وكيف تتحقق؟ إلى غير ذلك من أسئلة يطرحها العقل تباعا، وإجابتها تتوقف عادة على إجابة السؤال الأول وحل العقدة الكبرى لدى الإنسان (لماذا أنا موجود؟ ومن أين جئت؟ وإلى أين أنتهي؟)، وعلى أساس حل هذه العقدة والإجابة على أسئلتها تكون الإجابة على ما يتلوها من أسئلة، ويكون رقي الأمم التي تحمل هذه الإجابات ونهضتها دائمة أو مؤقتة، فإن وافقت الفطرة وأقنعت العقل حينها نضمن أنها ستكون أساسا لنهضة حقيقية ودائمة.

 

إن العقل دائما يبحث عن سبب وجوده ومن أين أتى وإلى أين يذهب، وهو السؤال الفطري الحقيقي الذي حير المفكرين والفلاسفة على مدى العصور، وتكلموا فيه كثيرا ووضعوا لذلك نظريات وتصورات لكيفية بدء الخليقة جلها ليس على أساس عقلي بل هي افتراضات توهّم العقل حدوثها وأشبعت لدى البعض جانبا لم يستطيعوا إشباعه بعقولهم القاصرة، واستطاعوا النهوض من خلال التمسك بتلك الأفكار. فرغم فسادها إلا أنها أجابت عن الأسئلة التي حيرت العقل ولو كانت بإجابات خاطئة ولم تقنع العقل وإن قبلها على مضض، ولهذا صارت تفسيراتها لمفاهيم الإنسان وحاجاته تفسيرات خاطئة ولم تفرق بين حاجاته وغرائزه ولا ميوله ورغباته، وبالتالي لم تضع تصورا لما هو واجب الإشباع أولا، ولا ما هو ترتيب سلم الأولويات في الإشباع لدى الإنسان ولا متى وكيف يشبع. حتى تفسير مفهوم السعادة ارتبط بفساد الفكرة فصارت السعادة هي تحصيل القدر الأكبر من المتع الجسدية! نعم هذا ما ينتجه العقل القاصر العاجز عندما تفسد طريقة تفكيره ويظن نفسه غير محتاج لخالق مدبر وأنه يستطيع بعقله هذا تدبير شؤون نفسه في هذه الحياة، هكذا يفكر الإنسان الرأسمالي وهكذا يعيش؛ نفعي منغمس في الملذات لا يقيم وزنا لقيم ولا لمقاييس وليست لديه قناعات إلا بكيفية تحقيق القيمة المادية فقط. بينما نجد أن التفكير السليم على أساس عقلي يهدي صاحبه إلى وجود الله عز وجل وأن هذا الكون مخلوق لخالق عظيم هو الله تعالى وأنه متصف بكل صفات الكمال سبحانه. وهنا عندما نقول على أساس عقلي أي أن صاحبه قد اهتدى لوجود الله على أساس المسلمات العقلية الثابتة التي تقضي بأن أعلى مستوى لإدراك الإنسان لا يخرج عن الكون والإنسان والحياة، فالإنسان لا يدرك ما وراء الكون ولا ما قبل حياته ولا ما بعدها، والكون والإنسان والحياة كلها محدودات؛ ناقصة وعاجزة ومحتاجة وفي مجموعها الذي تكمل فيه بعضها تثبت عجزها وأنها تحتاج لهذا الخالق الذي أوجدها وأوجد النظام الذي وضعت فيه، فسير الشمس والقمر ووضع النجوم وخلق الخلق. ومن تمام قدرته أنه فوق إدراك العقل، فالعقل يعجز عن إدراكه وإن أدرك وجوده بآثاره في مخلوقاته التي تثبت له الوجود والقدرة والعظمة، ولنا في الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أسوة حسنة؛ فقد قص علينا القرآن الطريقة التي اهتدى بها لوجود الله عز وجل وكونه الخالق المدبر فاطر السماوات والأرض (الآيات). ونقول خالقا مدبرا هنا للزوم الأمرين معا، فالخالق لا بد أن يكون مدبرا لعلاقات الإنسان ولا يجوز ترك تنظيم العلاقات وتدبيرها لعقل الإنسان العاجز الناقص الذي لا يدرك حتى حاجاته هو بشكل شخصي فكيف بحاجات باقي الناس، وكيف بحاجات من لا يعرفهم ومن لم يشهدهم والأجيال التي لن يراها، والعقل يؤكد أن الصانع أولى وأعلم بما صنع، فلو اشترينا جهازا وأصابه عطب سنعود للصانع الذي عادة ما يضع لنا كتيبا ليرشدنا لكيفية التعامل مع الجهاز وكيفية تشغيله وصيانته وكيفية الاستفادة منه على الوجه الأكمل، أليس الأولى أن نعود هنا للخالق ليبين لنا كيف نسير أمورنا وكيف ننظم علاقاتنا الثلاث في هذه الحياة الدنيا؟! قطعا يجب أن نعود إليه وننتظر منه رسالة تبين لنا كيفية تنظيم هذه العلاقات. وقد توالت الرسالات يحملها الرسل بآيات واضحة تبين صدقهم في تبليغ الرسالة عن رب العزة جل وعلا حتى وصلتنا آخر رسالة مع آخر رسول يقول إنه مرسل من عند الله عز وجل. وحتى نصدق الرسول ﷺ يجب أن نبحث في الرسالة وهي القرآن الذي تحدى العرب والعجم وتحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثله، وقد أتى بلسان العرب وبلون جديد من كلامهم لم يعرفوه ولم يستطيعوا أن يأتوا بمثله وهم أهل البلاغة والفصاحة واللغة، وقد تحداهم القرآن تحديا معجزا قائما إلى قيام الساعة، ولم يأتوا بسورة من مثله كما طلب منهم القرآن، وعجز العرب عجز لغيرهم من الناس، ونفي كونه من عند العرب نفي لكونه من عند محمد ﷺ وإثبات أنه كلام الله المنزل من عنده سبحانه وإثبات لنبوة محمد ﷺ وإثبات لكل ما جاء فيه من بيان ومن غيب لا يعلمه الإنسان ولا يراه؛ فالجنة حق والنار حق والملائكة والرسل والأمم السابقة التي أخبر عنها القرآن وجعل الأمة شهيدة عليها وعلى تلقيها لرسالات أنبياء الله كلها حق.

 

وهنا نجد في هذا الكتاب كل الإجابات على كل الأسئلة التي يطرحها العقل آنيا والتي قد يطرحها مستقبلا، بل ومعالجات لكل مشكلات الإنسان بحلول توافق الفطرة وتقنع العقل فتملأ النفس طمأنينة.

 

هذه الفكرة الكلية بعد كل ما بينته كيف ستؤثر في حياة الإنسان وكيف ستغيرها؟ قطعا ستغيرها تغييرا جذريا شاملا، فالفرق كبير بين من ينكر وجود الخالق أو يدعي أنه لا يدبر شؤون الناس، وبالتالي فلا حساب ولا جزاء فيعكف هو على تدبير شؤونه بنفسه وبعجزه وربما بجشعه وتوحشه، وبين من يدرك أنه مخلوق لله عز وجل وأنه يجب أن يسير في حياته وفق أوامر الله ونواهيه وأن هناك بعثا وحسابا وجزاء، وأنه محاسب على أفعاله في هذه الحياة الدنيا، فكيف ستكون حياته. لقد قيل "من أمن العقوبة أساء الأدب"، وقد رأينا ونرى كيف تفعل الرأسمالية التي هي من نتاج عقول البشر، وكيف تستعبد الناس وتنهب ثرواتهم، وكيف أشعلت حروبا وأبادت شعوبا من أجل الاستحواذ على الثروات وسرقتها من أصحابها.

 

إن الحاجة ماسة لأن تكون الفكرة الكلية الصحيحة التي أشرنا إليها والتي أساسها عقيدة الإسلام هي أساس النهضة، فبها فقط وفي ظل ما انبثق عنها من أحكام وقوانين ومعالجات يضمن الناس إشباع حاجاتهم وغرائزهم على الوجه الصحيح، وعلى أساسها تقوم الدولة التي تنهض بالناس وترعاهم رعاية حقيقية لا غاية من ورائها إلا رضا الله عز وجل، وهي الدولة نفسها التي أقامها سابقا رسول الله ﷺ في المدينة وأرسى دعائمها حتى بقيت بعده ما يزيد على ثلاثة عشر قرنا من الزمان أزالت دولاً من الوجود وأوجدت عدلا ونهضة لا زالت آثارها باقية شاهدة رغم غيابها لما يزيد عن 100 عام، هذه هي النهضة التي نريد والتي نطمح لها؛ نهضة أساسها وأساس دولتها عقيدة الإسلام التي توافق فطرة الناس التي فطرهم الله عليها والتي تضمن لهم حقوقهم وكرامتهم ولا تفرق بينهم مسلمين وغير مسلمين.

 

ونحن نعلم يقينا أنها ستكون يوما وقريبا إن شاء الله، فيا بشرى من عمل لها وشهد قيامها، فلن يستوي العاملون لها مع المصفقين لها عند قيامها، نسأل الله أن نكون من جنودها وأهلها وشهودها.

 

 

﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ

 

 

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

سعيد فضل

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر