سياسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

فوضى الفرنكفونية بتونس اختيار فاشل وبالإسعاف

هذا بلاغ لمن غفل أو تغافل: في تونس قد لفظنا الفرنكفونية!

 

إنّ التعثّر المتكرّر لانعقاد المؤتمر العالمي للفرنكفونية المزمع حدوثه في تونس بجزيرة جربة في 19 و20 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري 2022 - والذي ينتظم عادة كل سنتين منذ عام 1986 برعاية منظمات تحت تسميات متعددة كانت النواة الأصلية لتبلور المنظمة العالمية للفرنكفونية (OIF) سنة 2005 - يحمل دلالات عميقة تعكس حقيقة منزلة الفرنكفونية المتهاوية في الفضاء الفرنكفوني عامّة وفي عمق الفضاء العربي الإسلامي داخل المستعمرات الفرنسية السابقة خاصة، فمنذ أن أُعلن عن إقامته في تونس 2020 وهو يشهد تأجيلا وراء تأجيل: الأول كان بسبب الأزمة الصحية العالمية كوفيد-19، أما الثاني فبسبب قرارات قيس سعيّد وأحداث 25 تموز/يوليو 2021 التي رأت فيها كندا على لسان وزير خارجيّتها تهديدا لما أسمته المسار الديمقراطي في تونس والذي يُمثل على حد قولهم قيما كونية تتبنّاها المجموعة الفرنكفونية، أما الثالثة فكانت وعيدا وتهديدا بالمقاطعة أو التأجيل لوّحت به كندا إلى أواخر آب/أغسطس 2022، تهديدا يبدو أنه في انسجام وتناغم تام مع الموقف الأمريكي الذي كرّست له وزارة الخارجية الأمريكية وبعض أعضاء الكونغرس تركيزا مكثّفا ومتناميا على تونس ما بعد 25 تموز/يوليو 2021 من خلال تقارير دورية ورسائل تحمل في ظاهرها قلقا على الوضع السياسي المضطرب في تونس، وفي باطنه طمعا وطموحا أمريكيا جامحا لفرض نفوذها السياسي داخل تونس بوابةً للقارة الأفريقية ومنافسة للوجود الأوروبي الذي تتزعمه كل من فرنسا وبريطانيا.

 

إن الإبقاء على خيار تونس حاضنة لمؤتمر الفرنكفونية جاء بعد جهد وعنت ألحّ فيه سفير تونس بكندا وتوسّل حتى جاءه الدّعم من حجر العقد في بناء الفرنكفونيّة فرنسا (ماكرون) على إثر لقائه رئيس كندا جاستين ترودو خلال مؤتمر السبعة 2022/G7 لتجتاز الحكومة التونسية الامتحان بإسعاف أستاذها المنكوب بفشل تلميذه، فشل على جميع الأصعدة؛ فشل في تحقيق الاستقرار والأمن للمستعمر حتى يمدّ رجله في تونس، وفشل في حماية بيضة الفرنكفونية التي لا جذور لها في وجدان الناس، فضلا عن فشل في تركيز قيم الاستعمار الكونية في نفوسهم.

 

وعلى قدر ما كان التحضير للمؤتمر مُتوتّرا فاقدا للسلاسة فإنّ تاريخ الفرنكفونية كان كذلك معنا، قلقا خبيثا، وجسما مُضرّا زرعه فينا المستعمر ظلما وبُهتانا. فما هي الفرنكفونية؟ ومن أين جاءت؟ وما هي أهم المراحل التي مرّت بها؟ وكيف حالها اليوم؟

 

بواكير تأسيس الفرنكفونية: بورقيبة الأب الرّوحي وصاحب الفكرة!

 

تُعرّف الفرنكفونية في دائرة المعارف العالميّة على أنّها مجموعة من الناس التي تُمارس بانتظام اللغة الفرنسية سواء كلغة أمّ أو لغة شائعة الاستعمال أو لغة للتعليم، أو كانت اختيارا شخصيا.

 

لكنها تربط من جهة أخرى - كأغلب المراجع وكتب التاريخ - ظهور مصطلح الفرنكفونية في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر مع عالم الجغرافيا الفرنسي (Onésime Reclus) الذي لاحظ توسّع استعمال اللغة الفرنسية بتوسع الاستعمار الفرنسي في آسيا وأفريقيا.

 

لكنّ المخزي في الأمر أن الفرنكفونية بالمفهوم الحديث المتداول في زمن ما بعد الاستعمار العسكري المباشر أعاد إحياءها وأسّس لبلورتها سنة 1962 أربعة رؤساء أفارقة على رأسهم بورقيبة ورئيس السنغال ليوبولد سيدار سينغور وكلاهما من خريجي السوربون ولهما تاريخ أسود لا يخفى على أحد في خدمة المستعمر الفرنسي؛ فسينغور دافع عن الفرنسية عندما كتب مقالا في السنة نفسها في مجلة Esprit عدّ فيه الفرنسية "أداة ثمينة تم العثور عليها على أنقاض الاستعمار" وأن الفرنسية في رأيهم أمر إنساني يجب أن تكون قاعدة لبناء علاقة وصفها بـ"الأخوة" بين دول أفريقيا الفرنكفونية وبين المستعمر الفرنسي!! رأيٌ سانده بورقيبة الذي دعا في تلك الفترة إلى هيكلة هذه العلاقة في شكل مؤسّساتي، وقد حاول رسم جذور وهمية للغة الفرنسية في تونس في خطاب له بجامعة مونتريال بكندا سنة 1968 تحت عنوان "انفتاح مزدوج على العالم" صرّح فيه أنه إذا كانت الفرنسية جزءا طبيعيا من هوية الكنديين فإنها بالنسبة للتونسيين "اختيار واع" لأنها لغة فلاسفة الحرية، وعلى عكس ما يُروج له بأنها مرتبطة بالاستعمار، فإنه ينفي عن نفسه ما اتُّهم به من عمالة لفرنسا والاستعمار، ويُرجع ظهور اللغة الفرنسية في تونس لفترة ما قبل انتصاب الاستعمار الفرنسي 1881 حين أدخل طوعيا تدريسها الوزير خير الدين باشا لأول مرة عند تأسيس المدرسة الصادقية وإرسال البعثات الطلابية لفرنسا والتي أنتجت نواة من المثقفين المنبتّين ابتلينا بهم في تونس والجزائر والمغرب وأفريقيا عامّة، أسسوا لمشهد فكري وعلمي وسياسي مُوالٍ لفرنسا وللغرب عامة بقيمه وأفكاره وزوايا نظره، ما شل قدرتنا على التفكير وجعلنا لفترة لا بأس بها من الزمن عاجزين ندور في حلقات مفرغة في فلك علمانيتهم المقيتة ووهم شعاراتهم الكونية المزيفة: "حرية، عدالة، مساواة، أخوة إنسانية، وتعايش سلمي بين الأديان"، عالم موهوم من الشعارات الكاذبة التي ختم بورقيبة خطابه بوصفه "هذه إمبراطورية العقل والذكاء التي لا تغيب عنها الشمس: الفضاء الفرنكفوني". وهمٌ اقترحه على رئيس فرنسا شارل ديغول بتأطيره بتأسيس منظمة جامعة للفرنكفونية والفرنكفونيين لكن ديغول ممثل الاستعمار كان أكثر دهاء ورصانة من عُمّاله وولاته فآثر الرجل بيع الصوف برزانة مُعتبرا أن الستينات ليست زمنا مناسبا لتأسيس منظمة للفرنكفونية والحال أن حرب الجزائر انتهت سنة 1962 تاركة خلفها مليوناً من الشهداء وجراحاً إلى يومنا هذا لم تلتئم، ما سيثير الريبة والشكوك ويُحرك حنق الشعوب التي سترى فيها منظمات لإعادة هيكلة الاستعمار في بلادهم بعد التضحيات الجسيمة التي قدموها والتي لم تندمل جراحها بعد، فأدى هذا إلى التأني والتريث بوضع هيكل أوّلي محدود النشاط - كما عرّفه أصحابه القائمون عليه - تحت اسم وكالة التعاون الثقافي والفني ACCT سنة 1970 منتظرين عشرين سنة لانعقاد أول مؤتمر لهم يحتفي بالفرنكفونية سنة 1986 في فرساي.

 

الفرنكفونية وجيل الوهم: جيل من أشباه المثقفين لا أثر لهم في صفوف الأمة

 

"الفرانكفونية تطوّر لدجل جديد" و"غزو ​​مخادع يُزين نفسه بقيم كونية ليخضعنا معاً مستعمَرين حاليين ومستعمرين متحررين"... عبارات جاءت على لسان Chantal Spitz أول امرأة كاتبة من جزر التاهيتي التي لمعت في سماء الأدب والكتابة باللغة الفرنسية لكنها لفظت ثقافة المستعمر، فكشفت خداعه وزيفه وأزمة الهوية التي خلقها الاستعمار الثقافي الفرنسي في نفوس مئات من المفكرين والأدباء والعلماء الفرنكفونيين في التاهيتي، في قوادلوب في أفريقيا وآسيا فهم يكتبون بالقلم الفرنسي بإتقان ولكن عبثا هي محاولاتهم للتفكير كفرنسيين لأنهم في كل مرة يصطدمون بثنائية ثقافتهم وثقافة الآخر المتنافرة، ولعل أولئك الذين ينتمون لثقافة الإسلام أكثر من يعيش هذه الأزمة لما في ثقافة الوحي من قوة ونباهة فكرية فهي صوت الحق الذي جاءنا به سيدنا محمد ﷺ من رب هو الأعلم والأحكم في فهم الذات البشرية وفي تحقيق العدل والقسط، لكن عددا لا بأس به من المثقفين الفرنكفونيين في بلاد الإسلام لا يعترف بأزمته وغربته الروحية فيصبّ جام حنقه ويأسه على أمته وحضارته ودينه فيتّهمها بأنها وراء الانحطاط والتخلف عن ركب التطور والإبداع والإنتاج وحتى الاستجابة إلى أدنى حاجات الإنسان، منكرا أو متغافلا عن جهل وكِبر حقيقة أن العقل الرأسمالي الاستعماري الغربي هو الجاني الحقيقي على البشرية عامة وعلى أمة الإسلام بالخصوص.

 

لكن بعيدا عن نخبة معدودة تربعت في أحضان الجامعات الفرنكفونية، يعيش الناس عامة حالة من العداء والاستهجان، موقف كانت أولى بواكيره في السبعينات من القرن الماضي مع الصحوة الإسلامية خاصة في تونس والجزائر والمغرب عندما أصبح حرص عامة الناس من جيل الشباب على تنقية لغته من الألفاظ الفرنسية، والحرص على كف بيئته الاجتماعية عن الاحتفال بأعياد الميلاد ورأس السنة وما يرافقها من عادات وتقاليد فرنسية مُسقطة شكلا من أشكال النضال والمقاومة في سبيل إحياء هذا الدين، موقف كان سلسا مثل حركة طبيعية تلقائية تخضع لقوانين الفيزياء الكونية فالإسلام مبدأ شامل يحمل في جنباته القدرة على التكيف في مواجهة الأفكار الهجينة المخالفة له، فرغم القمع والتزوير والخداع والعمالة ظلّ الإسلام متجذرا في نفوس الناس يشتغل في حركة لا تنقطع، فكلما تراكم عليه الالتباس وتكاثفت حوله حجب الفكر العلماني الفرنكفوني أو غيره من الأفكار الغريبة عنه، وجد طريقه للفظها وتنقية نفسه من الشوائب، أمر جعل الغرب حائرا في أمتنا وجعل أذياله من أشباه المثقفين ناقمين على فشلهم، فإن كانت الشعوب الأفريقية وسكان التاهيتي والقوادلوب التي لا تعتنق الإسلام قد جعلت شعارها في الوفاء والإخلاص لهويتها وحضارتها هي مقاطعة كل ما هو فرنسي وهو أمر صرح به إيمانويل ماكرون في خطابه أمام البرلمان التونسي سنة 2018 داعيا أتباعه الشبه معدومين في تونس لنصرة الانتماء للفرنكفونية، فإن المسلمين أولى بأن يكونوا في الصدارة للتصدي لهذا العبث، فلا يُمكن بحال من الأحوال أن يتوحّد البشر من كل عرق وصوب تحت راية لغة - أشاعوا أنها أجمل وأبلغ اللغات - في حين إنها ترمز للاضطهاد وسرقة الناس في ثرواتهم وعقائدهم وتاريخهم! إننا بوصفنا مسلمين نتحمل المسؤولية في حمل ثقافتنا؛ ثقافة الإسلام، للآخر الذي هو في أشد الحاجة إليه لأن الإنسان مهما تمرد على الظلم فإن لا مُحرر حقيقياً له من عبودية الاستعمار إلا الإسلام، وهذا لا يتأتى إلا بإقامة الدولة الاسلامية التي تحفظ عقيدتنا وديننا وتحمل الدعوة للآخر بالفتوحات وحمل راية الإسلام واجباً شرعياً فرضه الله إلى قيام السّاعة.

 

إن حرص فرنسا الشديد على إقامة هذا المؤتمر في تونس لهو محاولة فاشلة يائسة تحاول فيها أن تسِمنا باسمها وتُظهر للعالم أن تونس وأفريقيا لا زالت تابعة لها ولا زالت موطئا لأقدامها القذرة، لكن الحقيقة الجليّة هي أن الناس قد غسلوا أيديهم من فرنسا وثقافتها، وقد خلقت تراكمات السنوات الماضية رصيدا ثابتا متناميا من الوعي بخبث الفرنكفونية وموقفا أصيلا رافضا لها.

 

يقول الله تعالى في محكم تنزيله: ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ﴾.

 

كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

هاجر بالحاج حسن

 

آخر الإضافات