الأجوبة الفقهية

لا زيادة في القرآن دون معنى

 

إلى: Drmusab Al-froukh

 

السؤال:

 

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته

سؤال: ما مدى صحة هذا القول؟

 

وقعت مناقشة بين أحد علماء النحو وأحد علماء البلاغة ـ وهو ابن الأثير ـ حول حرف (أنْ) في قوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ فِى ٱلْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا ٱلَّذِى ٱسْتَنصَرَهُۥ بِٱلْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُۥ قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰٓ إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ﴾ فقال النحوي: إنّ (أنْ) الأولى زائدة، ولو حذفت فقيل: فلمّا أراد أن يبطش، لكان المعنى سواء، ألا ترى إلى قوله تعالى ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ﴾ وقد اتفق النحاة على أنّ (أنْ) الواردة بعد لمّا وقبل الفعل زائدة. بماذا ردّ ابن الأثير، قال ابن الأثير رداً على النحوي: النحاة لا فتيا لهم في مواقع الفصاحة والبلاغة، ولا عندهم معرفة بأسرارها، من حيث إنهم نحاة. ولا شك أنهم وجدوا أنْ ترد بعد لمّا وقبل الفعل في القرآن الكريم، وفي كلام الفصحاء، فظنوا أنّ المعنى بوجودها كالمعنى إذا أسقطت، فقالوا: هذه زائدة. وليس الأمر كذلك، بل إذا وردت لمّا وبعدها (أنْ) ثم الفعل كان ذلك دليلاً على أنّه لم تكن مسارعة موسى عليه السلام إلى قتل الثاني كما كانت مسارعته إلى قتل الأول، بل كان عنده إبطاء من بسط يده، لذلك عبّر القرآن عن هذا بقوله: ﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ﴾ بزيادة (أنْ) بعد لمّا. وإذا ورد الفعل بعد لمّا بإسقاط (أنْ) كان ذلك دليلاً على أن الفعل كان على الفور. وأنهى ابن الأثير مناقشته بقوله: وهذه دقائق لا تؤخذ من النحاة، لأنها ليست من شأنهم.

 

يعني: هل ما قاله ابن الاثير دقيق؟ وإذا لم يكن فهل في القرآن كلام زائد؟

 

الجواب:

 

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

 

يبدو أن هناك شيئاً لم يُستوف في ما قاله ابن الأثير وما قاله محاوره في تلك المناقشة... والمسألة كما أراها هي على النحو التالي:

 

إن الآية الكريمة ﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا﴾ تتضمن أمرين يجب فهمهما وهما: (أن يبطش)، (فلما أن):

 

1- أما الأولى وهي حرف النصب "أن" الداخل على الفعل المضارع فإنه حرف مصدري ونصب واستقبال:

 

فهو يجعل ما بعده في تأويل مصدر فمثلاً ﴿يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ تؤول (يريد الله التخفيف عنكم)... وهو ينصب المضارع... أما أنه حرف استقبال فلأنه يجعل المضارع خالصاً للاستقبال، "وكذلك جميع نواصب المضارع"، ولكن المضارع دون دخول حرف النصب فيبقى يحتمل الحال والاستقبال... وبناء على معنى حرف النصب أعلاه، فإن معنى ﴿أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا﴾ يرجح فيه أن موسى عليه السلام لم يبادر للبطش به فوراً بل بدأ يفكر لأن النص ﴿أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ﴾ وليس (أراد يبطش) وإلا لاحتملت الحال والاستقبال، أي الفور أو التفكير لاتخاذ القرار ومن ثم لاحتاج قرينة لترجيح الفعل أي الحال أو الاستقبال، وأما ﴿أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ﴾ فهي للاستقبال دون الحال أي بعد مهلة شيء من التفكير وإن قلَّ.

 

2- أما استعمال "أن" بعد "لما" فيعني الزيادة لغة لأن "لما أن أراد" هي من حيث الصياغة اللغوية مثل "لما أراد" ولكنها زائدة لمعنى وهو توكيد التمهل في البطش أي توكيد ما بعدها "أن يبطش" أي توكيد عدم الفور في البطش بل بالتفكير والتريث وإن قل.

 

3- وهكذا فإن "أن" الأولى في الآية الكريمة أي "أن أراد" هي زائدة من حيث الصياغة اللغوية ولكن لمعنى، وهو لتوكيد التريث في البطش الوارد بعدها "أن يبطش". ولا يقال إن التوكيد يعني أن يكون المؤكِّد بعد المؤكَّد، زمناً أو صياغة، مثل ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ تأكيد زمني كما هو مبين أدناه و("جاء جاء علي" أو"لا، لا أبوح بالسر") تأكيد صياغةً... فهذا صحيح إلا إذا كان التوكيد من باب التوكيد المترادف فيجوز أن يكونا معاً دون أن تكون القبلية والبعدية شرطا في التوكيد المترادف، فمثلاً تقول (أتى جاء علي)، وتكون ("أتى"، "جاء") من باب التأكيد المترادف والقبلية والبعدية لا ترد هنا... وهكذا (فلما أن أراد) تفيد التريث والإمهال، أي ليس على الفور، وكذلك التي بعدها (أن يبطش) فهو فعل مضارع منصوب والنصب يمحضه للمستقبل أي ليس على الفور، وهذا من باب التوكيد المترادف... ولذلك فإن "أن" في (فلما أن أراد) يمكن القول إنها زائدة لغة لكنها لمعنى وهو التوكيد المترادف إلى (أن يبطش) أي أن موسى عليه السلام لم يبطش بالخصم فوراً بل تمهل وفكر في الأمر...

 

4- أما هل في القرآن الكريم حروف زائدة، فإن كان المقصود زائدة لغير معنى فإني لا أرى ذلك، فلا حروف زائدة في القرآن دون معنى، وقد ذكرته في كتابي (التيسير في أصول التفسير - سورة البقرة)، حيث جاء فيه عند تفسير الآية الكريمة ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾، جاء فيه: (لا يوجد في القرآن تكرار أو زيادة لغير معنى، ولذلك فكلّ ما ورد في القرآن وكأنه تكرار أو زيادة هو في الحقيقة لزيادة معنى مثل (مِن) هنا فقد أفادت زيادة معنى وهو التوكيد أي توكيد التحدي السابق.)

 

وأما إن كان المقصود حروفاً زائدة لمعنى فهذا موجود، فقوله تعالى في سورة البقرة: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ فهنا "من" قد يقال عنها زائدة لغة ولكنها ليست دون معنى، بل هي تفيد التوكيد الزمني أي لأمر سبقه، وهذا يعني أنه نزل هذا التحدي قبل هذه الآية ثم جاءت الآن لتوكيد التحدي السابق، وبتدبر آيات الكتاب يتبين أن هذا التحدي نزل قبل ذلك في مكة المكرمة في سورة يونس عليه السلام ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾، وسورة يونس مكية وسورة البقرة مدنية أي بعد يونس، فتكون آية البقرة تأكيداً لآية يونس قبلها، وذلك بزيادة "من" في آية سورة البقرة عنها في سورة يونس، فأفادت توكيد ما قبلها وليست دون معنى.

 

هكذا أفهم أن لا زيادة في القرآن دون معنى والله أعلم وأحكم.

 

أخوكم عطاء بن خليل أبو الرشتة

 

04 ربيع الأول 1444هـ

الموافق 30/09/2022م

آخر الإضافات