سياسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

محاكمة ترامب وانقسام أمريكا المؤذن بخرابها!

 

ليس مستغربا ولا مستهجنا في ظل المنظومة الغربية الخاوية من كل القيم، والجرداء من كل نبل وفضيلة، والممتلئة والمزدحمة بكل أنواع الرذائل والقبائح، أن تزحم رحمها المشؤومة بكل آفة وخطيئة ومساءة ومسبة، وأن تكون على مستوى القائد والقيادة، لتكشف بذلك حجم العدم القيمي والإفلاس الحضاري الذي يحياه الغرب.

 

فلقد مثل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في 2023/4/4 أمام محكمة مانهاتن للرد على الاتهامات الجنائية الموجهة له بسبب دفعه 130 ألف دولار لممثلة أفلام إباحية مقابل صمتها بخصوص علاقة جمعتها معه، وكانت هيئة من المحلفين الأمريكيين قد قررت توجيه هذا الاتهام له قبل فترة بحسب صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.

 

واستبق ترامب محاكمته بتغريدة على تويتر قال فيها "هذه حملة اضطهاد، دولتنا التي كانت عظيمة في يوم من الأيام تتجه نحو الجحيم"، ليصبح بذلك أول رئيس في تاريخ أمريكا يمثل أمام القضاء في مواجهة اتهامات بارتكاب جريمة.

 

ليست فضيحة ترامب استثناء أو نشازا في فساد القيادة الغربية، فالقيادات الفاسدة نتاج طبيعي لمنظومة غارقة في الفساد، والتاريخ السياسي الأمريكي يكاد يكون سجل فضائح لفساد القادة، من فضائح قياداته القريبة العهد فضيحة ووترغيت وقرار الرئيس نيكسون إثر الحملة الانتخابية التجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس في مبنى ووترغيت في واشنطن. وفضيحة إيران-كونترا التي كشفت عن ارتباط نظام ملالي طهران بأمريكا، حيث باعت إدارة الرئيس ريغان صواريخ لإيران أثناء الحرب الإيرانية العراقية، رغم السياسة الأمريكية المعلنة حينها وقرار واشنطن فرض حظر على بيع الأسلحة لطهران. ثم فضيحة لوينسكي وعلاقة الزنا التي جمعت الرئيس كلينتون بموظفة تحت التدريب مونيكا لوينسكي، لتحصل فجأة على وظيفة مدفوعة الأجر. وسجل فضائح قادة الغرب لا تكاد تُطوى فضيحة حتى يكشف عن أخرى وما خفي منه أقبح وأشنع!

 

علما أن كل هذه الفضائح المعلنة طويت ملفاتها سياسيا، ولم تتابع قضائيا فضلا أن ترقى للمتابعة الجنائية علما أنها كلها تتوفر فيها شروط الجناية، ولكن للسياسة الغربية غاياتها وأهدافها الميكافيلية وللساسة الأمريكان حساباتهم الانتخابية، ومن هذه الحسابات أن كشف الفضيحة الهدف منه تحطيم المنافس سياسيا وعزله عن المنافسة وليس كسر الشخص، وبناء عليه تحسم هذه الملفات سياسيا وليس قضائيا.

 

أما حالة الرئيس السابق دونالد ترامب فهي حالة استثنائية بكل المقاييس، فهو أول رئيس أمريكي يواجه اتهامات جنائية بعد أن قررت هيئة محلفين في نيويورك توجيه اتهامات إليه، واستقطبت محكمة مانهاتن ومحاكمة ترامب اهتماما سياسيا وإعلاميا كبيرا على مستوى الداخل الأمريكي وفي الخارج. وخلفية المحاكمة هي سياسية كباقي المحاكمات وما كان الحق العام فيها سوى قناع للسياسي لإخفاء كيده السياسي بغريمه، والاختلاف هنا متعلق بالهدف من المحاكمة فعطفا على العزل والتحييد السياسي للمنافس استجد مع الانقسام الحاد للمجتمع الأمريكي عنصر جديد وهو محاولة كسر الخصم الذي بات يُرَى جراء الانقسام كعدو تجب تصفيته سياسيا.

 

فالانشطار الذي حصل على مستوى النواة الصلبة للرأسمالية الأمريكية وتفككها إلى عنصرين متنافرين من طبقات رؤوس الأموال، طبقات متضاربة المصالح ومتناقضة الأهداف، طبقة رأسماليي السلع والخامات والمواد الأولية وطبقة رأسماليي التكنولوجيا الرقمية. والأحداث السياسية الأخيرة سواء الهجوم الأخير على الكابيتول واقتحام مقر الكونغرس بالعاصمة واشنطن، أو انتخاب رئيس لمجلس النواب الأمريكي وجولات الاقتراع المتكررة وما شابها من تصدع وانقسام سياسي في سابقة لمجلس النواب الأمريكي منذ 100 سنة. ثم محاكمة ترامب اليوم في سابقة في توجيه اتهامات جنائية لرئيس أمريكي. فكل هذه الوقائع هي انعكاسات لذلك الانشطار على مستوى النواة الصلبة للرأسمالية الأمريكية وتداعياته الحادة عموديا وأفقيا داخل الأحزاب والإدارة والدولة والمجتمع، وكل طبقة تسعى لتسخير الدولة وأنظمتها ومؤسساتها وأجهزتها لأهدافها ومصالحها الخاصة ولتحطيم الخصم وتهشيمه وليس فقط عزله وتحييده. وسياسة كسر العظم باتت عنوان المرحلة على المستوى السياسي والاقتصادي في الداخل الأمريكي، ومحاكمة ترامب إحدى إفرازاتها.

 

فمحاكمة ترامب تسلط الضوء على حالة الانقسام الحاد للمجتمع الأمريكي، التي لم تعد صناديق الاقتراع والانتخابات نفسها ذات جدوى في الحالة الأمريكية، بل أصبحت معه الانتخابات ونتائجها كلها موضع شك وعدم مصداقية لدى قطاع واسع من الأمريكيين، حيث قالت ويندي شيلر أستاذة العلوم السياسية في جامعة براون الأمريكية "الرأي العام ينظر إلى كل شيء من خلال الانقسامات السياسية". ومع محاكمة ترامب تجددت حالة الحشد والاصطفاف والتمترس خلف الأهداف الخفية لطبقات رؤوس الأموال المتنافرين والمتصادمين والسياسيين السائرين في ركابهم.

 

وحِدَّة الانقسام في المجتمع داخل أمريكا مرشحة لمزيد من الشراسة والعنف السياسي والتوظيف والتسخير لمؤهلات الدولة والمجتمع لخدمة المصالح الخاصة، وهي مقبلة لا محالة على عنف مادي صرف جراء الإفلاس الفكري للمنظومة الغربية تصبح معه أدوات السياسة عديمة المفعول في تحقيق تلك المصالح الخاصة الضيقة. وتأجيج الشارع وحشد الأنصار والخطابات النارية والمظلومية الزائفة وتسخير المؤسسات والأجهزة والإعلام في تطاحن داخلي هي سمة المجتمع في أمريكا خلال هذه السنوات الأخيرة والمقبلة كذلك.

 

ففي حديث لشبكة أي بي سي نيوز الأمريكية قال مايك بنس زعيم الجمهوريين في الكونغرس إن المدعي العام في مانهاتن وهو ديمقراطي يقود "محاكمة مشحونة سياسيا". كما دعا ترامب في بيانه يوم السبت أنصاره إلى احتجاجات حاشدة بعد أن أجج مشاعر مناصريه وألهب عواطفهم متهما الديمقراطيين عبر شبكته "تروث سوشال" بأنهم "أعداء الرجال والنساء الكادحين في هذا البلد" وكتب "إنهم لا يستهدفونني أنا بل يستهدفونكم أنتم، أنا في طريقهم لا غير"، كما اتهم مكتب المدعي العام بارتكاب "تسريبات غير قانونية" للصحفيين. وتسهم هذه الأفعال وردود الأفعال والتصريحات والتصريحات المضادة في دعم نظرية حصول "طلاق وطني" التي باتت رائجة في أوساط اليمين المتطرف الأمريكي، وباتت مواضيع كالإجهاض والنوع البيولوجي والديمقراطية ألغاما شديدة الانفجار والتشظي في الداخل الأمريكي وتثير نقاشات عنيفة في أروقة الكونغرس الأمريكي.

 

فمع تداعيات الانقسام الحاد للمجتمع الأمريكي تتداعى كوابيس الحروب الأهلية الطاحنة وحروب الغرب الداخلية، وتتكشف معه حقيقة هشاشة البناء المجتمعي الغربي والأمريكي تحديدا، فأصبح كل حدث سياسي معركة وحربا مدمرة للنسيج المجتمعي المتداعي والمتهالك أصلا، وأصبح الخوف من انفلات الأوضاع وتحول الوضع إلى تطاحن داخلي متوقعا ومنتظرا، وذلك ما يفسر تلك الكثافة الأمنية التي رافقت المحاكمة، حيث وضعت كل شرطة نيويورك في حالة تأهب فقد أمرت شرطة نيويورك التي تضم 36 ألف شرطي جميع عناصرها وضباطها بالانتشار بلباسهم الرسمي على الطرق العامة لمدة أسبوع.

 

وهذه العسكرة للحياة العامة وتضخم الحالة الأمنية وارتفاع منسوب الهاجس الأمني، هو مؤشر دال على تجاوز الانشطار وتعديه النواة الصلبة الرأسمالية إلى المجتمع كله، وَلَّدَ معها حالة من التشظي وانعدام الأمن، فتشظي المجتمع إلى مجموعات متنافرة ومتصادمة، تتقوقع كل مجموعة حول مصالحها الضيقة وترى في المجموعات الأخرى عدوها الذي ينازعها مصالحها، يصبح معها وبعدها العنف المادي مستساغا ومبررا ومقبولا.

 

هي أمريكا نموذج الرأسمالية الغربية الصارخ وهذا هو انقسامها الفاضح، ومحاكمة رئيسها فصل من فصول انقسامها الحاد وبصرف النظر عن نتائج المحاكمة، فالحقيقة الفاضحة أن انقسام أمريكا الحاد دخل مرحلة انشطار مجتمعي يتهدد الدولة والمجتمع، ويغذيه ويزيد من حدته إفلاس المنظومة الغربية فكريا وعقم العقل الغربي أمام أزماته الطاحنة وانهياره الحضاري المتسارع الساحق.

 

بقيت مسألة على الهامش لا بد من تجليتها أرقت فئة من أبناء جلدتنا، بعدما أرهقهم واستنزفهم جور وطغيان حكام حظائر الاستعمار وأفقدوهم الأناة والإمعان في سبر أغوار الوقائع والأحداث السياسية الجارية، وأضحت مواقفهم وآراؤهم السياسية مشحونة بعاطفتهم المسحوقة وعقلهم المشوش، وتبدو ردات فعلهم هاته عند كل محاكمة لوغد من أوغاد قادة الغرب كمحاكمة ترامب الأخيرة، ينبري معها بعض المسحوقين من أبناء جلدتنا في حماسة اليائس في تكرار وترديد ذلك الحديث المبتذل السخيف عن قضاء وعدالة الغرب في محاكمته لقادته ورؤسائه، في عمى تام عن حقيقة القضية وزاوية النظر.

 

فالقضية كل القضية هي في فساد القيادة الغربية التي بات الفساد سمتها البارزة وطبعها الأصيل، وقذارة وعفونة القادة الغربيين (فضائح رؤساء فرنسا الثلاثة السابقين شيراك وساركوزي وهولاند، فضيحة جونسون ببريطانيا، فضائح برلسكوني بإيطاليا، فضيحة شولتس بألمانيا...)، فضائح تثرى أزكم نتنها أنف العالم وما أخفاه الغرب عن شعوبه أقبح وأشنع.

 

فالقضية كل القضية هي في فساد القيادة الغربية وفساد المنظومة الفكرية وأنظمتها التي أفرزت قادة فاسدين وبطانة مفسدة، وليس في المحاكمات التي تنتهي بطي الملف واستمرار الساسة الفاسدين المفسدين كجزء من المنظومة المتعفنة. ولِعِلْمِكُم وإشعاركم هي المنظومة الغربية المشؤومة نفسها وقيادتها الفاسدة عينها هي التي صنعت أوضاعنا المأساوية وجحيم حياتنا المعاصرة، ثم أوكلت بنا كبار المجرمين لحراسة وديمومة الحظائر الاستعمارية وما كانوا سوى حكام الوظيفة الاستعمارية.

 

ففساد القيادة الغربية والقائد الغربي هو رأس القضايا، وفساد المنظومة الغربية برمتها أس كل أزمة وإفلاس وخراب، وتلك أم المصائب ونذير بخراب الديار وانتحار الحضارة الغربية.

 

من لي بإسلامكم العظيم معشر المسلمين، وصنيعه العجيب الفريد في الأنفس وهو يمحو ما بداخلها من أدران ويسمو بها لتمام الفضيلة والرشد والإحسان؟! من لي بخلفائكم الربانيين وقادتكم العظام؟! من لي بأغبر أشعث تَرهبه الملوك ودانت له المماليك وتكسوه المهابة وعدله حديث الناس إلى يوم الدين؟! من لي بخليفة راشد يملأ فراغ القيادة ويمحو جور الغرب بعدل الإسلام؟!

 

﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

مناجي محمد

آخر الإضافات