جواب سؤال
الدولة كيان تنفيذي لمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات
إلى Abdul Rahman Darweesh
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
قبل سؤالي، أنا وإخوة لي في الدعوة وهم كثر يدعون لكم بكل خير، وبطول العمر وحسن العمل، آمين.
أما سؤالي فهو عن شرح العبارة الواردة في مقدمة الدستور: (إن الدولة كيان تنفيذي لمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات)، هذه الألفاظ الثلاثة ماذا تعني بالتحديد مع المثال؟
أكرمكم الله وبارك فيكم.
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
في البداية بارك الله فيك وفي إخوتك على دعائكم الطيب لنا، ونحن ندعو الله لكم بالخير.
إنك تشير بسؤالك إلى ما جاء في كتاب مقدمة الدستور الجزء الأول في شرح المادة (1)، وهو قوله: (ومن هنا عرفت الدولة بأنها كيان تنفيذي لمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي تقبلتها مجموعة من الناس.)، وبالمناسبة فإن هذه الصيغة ليست واردة فقط في كتاب المقدمة، بل هي واردة في كتب أخرى مثل كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الثاني حيث جاء فيه: (لأن كيان الأُمة هو مجموعة الناس، مع مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات. وكيان الدولة هو مجموعة من الناس لهم صلاحية الحكم مع مجموعة من المقاييس والمفاهيم والقناعات.)، ولكن أكثر كتاب تداول هذه الصيغة هو كتاب (دخول المجتمع)، حيث وردت فيه هذه الصيغة عشرات المرات...
وبالتدقيق في هذه الصيغة يتبين أن بين المصطلحات الثلاثة (المفاهيم، المقاييس، القناعات)، عموماً وخصوصاً كما يقولون... وبيان ذلك كما يلي:
1- الأفكار هي معاني الألفاظ، والمفاهيم هي معاني الأفكار، فإذا صدق المرء بالفكرة فإنها تتحول من مجرد فكرة إلى مفهوم يؤثر في السلوك... جاء في كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الأول صفحة 12-13 ملف الوورد ما يلي:
[المفاهيم هي معاني الأفكار لا معاني الألفاظ. فاللفظ كلام دل على معانٍ قد تكون موجودة في الواقع وقد لا تكون موجودة، فالشاعر حين يقول:
ومن الرجال إذا انبريتَ لهدْمِهِمْ *** هَرَمٌ غليظُ منَاكِبِ الصُّفَّاحِ
فإذا رميتَ الحَقَّ في أَجْلادِهِ *** تركَ الصراعَ مُضعضَعَ الألواحِ
فإن هذا المعنى موجود في الواقع ومدرك حسّاً وإن كان إدراكه يحتاج إلى عمق واستنارة. ولكن الشاعر حين يقول:
قالوا: أَينظم فارسين بطعنةٍ *** يومَ النّزالِ ولا يراه جَليلاً
فأجبتهمْ: لو كانَ طولُ قَناتِهِ *** مِيلاً إذنْ نَظَمَ الفَوارسَ ميلاً
فهذا المعنى غير موجود مطلقاً، فلم ينظم الممدوح فارسين بطعنة ولا سأل أحد هذا السؤال ولا يمكن أن ينظم الفوارس ميلاً. فهذه المعاني للجمل تُشرح وتُفسر ألفاظها. أما معنى الفكر فهو أنه إذا كان لهذا المعنى الذي تضمنه اللفظ واقع يقع عليه الحس أو يتصوره الذهن كشيء محسوس ويصدقه، كان هذا المعنى مفهوماً عند من يحسه أو يتصوره ويصدقه، ولا يكون مفهوماً عند من لا يحسه ولا يتصوره، وإن كان فهم هذا المعنى من الجملة التي قيلت له أو التي قرأها... فالمفاهيم هي المعاني المدرك لها واقع في الذهن سواء أكان واقعاً محسوساً في الخارج أم واقعاً مسلماً به أنه موجود في الخارج تسليماً مبنياً على واقع محسوس. وما عدا ذلك من معاني الألفاظ والجمل لا يسمى مفهوماً، وإنما هو مجرد معلومات.] انتهى.
وعليه، فكل فكر جرى التصديق به يسمى مفهوماً بغض النظر عن ضيق المعنى الذي تضمنه المفهوم أو سعته.
2- من المفاهيم ما يتعلق بأمر فرعي واحد فقط كحرمة شرب الخمر، فهي تحوي معنى واحداً هو أن الشرع حرم شرب الخمر، أي حوت حكماً فرعياً واحداً فقط... لكن بعض المفاهيم تتعلق بمعان متعددة لأنه يمكن أن تقاس بها أفكار فرعية عدة فهي ليست محصورة في أمر واحد... فمثلاً مفهوم الحلال والحرام هو مفهوم يغطي أعمال الإنسان كلها، فهو مقياس لأعمال الإنسان، فلا يتعلق بأمر واحد فقط، بل هذا المفهوم في هذه الحالة هو مقياس تقاس به أفكار ومفاهيم أخرى... ومثلاً مفهوم الأصل في الأشياء الإباحة هو مقياس تقاس به أمور كثيرة وليس محصوراً في أمر واحد... ومثلاً مفهوم الغاية لا تبرر الواسطة هو مقياس لأعمال سياسية وغير سياسية كثيرة، فهو مقياس تقاس به أفكار وأعمال سياسية كثيرة... وهكذا فإن المقياس من جهة السعة هو أعم من المفهوم، وهو في المقابل أخص من المفهوم باعتبار مصطلح المفهوم يطلق على الأفكار الجزئية كما يطلق على المقياس، وبهذا يتبين أن كل مقياس هو فكرة ومفهوم عند من يصدق به، ولكن ليس كل مفهوم مقياساً لأن المفهوم قد يكون فكرة فرعية وقد يكون مقياساً، أما المقياس فلا يكون إلا أمراً تبنى عليه فروع وتقاس به، فلا يكون فكرة فرعية.
3- أما القناعات فهي المفاهيم والمقاييس التي أخذت دور العراقة عند الفرد والأمة، وأصبحت متركزة في النفوس وفي المجتمع بحيث يصعب انتزاعها، فإذا تأصل المفهوم أو المقياس في النفوس وفي المجتمع فإنه يرتقي درجة ويصبح قناعة بحيث لا يتأتى قلعه وإزالته بسهولة من الفرد والمجتمع، وهناك بعض المفاهيم والمقاييس التي يجب أن تصل إلى درجة القناعات عند الفرد والمجتمع للحفاظ على الفرد والأمة، وذلك مثل مفهوم ومقياس أن الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي، ومثل مفهوم الطاعة، ومثل الجهاد، ومثل التوكل على الله... إلخ.
وبهذا الاعتبار المذكور في الأعلى عن القناعة فإن كل قناعة هي مفهوم أو مقياس، ولكن ليس كل مفهوم أو مقياس فهو قناعة، لأن المفهوم والمقياس اللذين لم يتأصلا في النفوس وفي المجتمع لا يصلان درجة القناعة وإن جرى التصديق بهما، أي لا يصلان درجة من الرسوخ والتركز والاستقرار بحيث يطلق عليهما مصطلح قناعات، وهذا بالطبع لا يعني أن الناس غير مقتنعين بهما بالمعنى اللغوي للقناعة، وذلك لأنهم يصدقون بهما... بل هما لا يحققان وصف قناعات بالمعنى الاصطلاحي مع أنهما صارا مفهوماً ومقياساً...
جاء في كتاب النظام الاجتماعي صفحة 11 ملف الوورد: [أما سبب هذا الاضطراب الفكري، والانحراف في الفهم عن الصواب، فيرجع إلى الغزوة الكاسحة التي غزتنا بها الحضارة الغربية وتحكمت في تفكيرنا وذوقنا تحكماً تاماً غيرت به مفاهيمنا عن الحياة، ومقاييسنا للأشياء وقناعاتنا التي كانت متأصلة في نفوسنا مثل غيرتنا على الإسلام وتعظيمنا لمقدساتنا.] انتهى.
والخلاصة: الفكرة إن كانت فرعية وحصل التصديق بها فهي مفهوم، وإن كانت فكرة يبنى عليها غيرها من الأفكار الفرعية وجرى التصديق بها فهذا المفهوم يصبح مقياساً، والمفهوم والمقياس إن تأصلا في النفوس وفي المجتمع والأمة صارا قناعات... وبهذا يظهر المقصود من استعمال هذه المصطلحات الثلاثة وضرورة التفريق بينها عند العمل على تغيير المجتمع وإقامة الدولة، فالحزب عندما يعمل في الأمة للتغيير عليه أن يكون واعياً ومدركاً للأفكار الفرعية التي يريد أن يحولها إلى مفاهيم في الأمة، وأن يكون مدركاً للمقاييس التي يريد أن يوجدها عند الأمة، وأن يكون مدركاً للمفاهيم والمقاييس التي يريد أن يجعلها تأخذ دور العراقة بحيث تتأصل في النفوس وفي المجتمع والأمة لتصبح قناعات يصعب نزعها... وبهذا يستطيع الحزب أن يضع أولوياته في العمل قبل قيام الدولة وبعد قيامها بتركيزه على المفاهيم والمقاييس الأكثر أهمية والأكثر لزوماً للحفاظ على الأمة والدولة فيوليها أكثر اهتمامه، ويعمل على تحويلها إلى قناعات لا يمكن زحزحتها بسهولة من النفوس.
آمل أن يكون الجواب واضحاً.
أخوكم عطاء بن خليل أبو الرشتة