رَتَعْتَم فرَتَعُوا ولو عففتم لعفّوا
كشف رئيس منظمة الشفافية الطيب مختار الطيب عن تجاوزات ضخمة وفساد بملايين الدولارات صاحبت أعمال الحج والعمرة وطالب من ديوان المراجع العام بعمل مراجعة مسبقة للموازنة المفتوحة للمصروفات والإيرادات والموارد وغيرها. وذكر أن هناك فسادا بالمبلغ المتحصل عبر بنك الخرطوم قدر بنحو 35.527 جنيه سوداني في المتوسط. وكشفت أيضا صحيفة الانتباهة عن عمليات فساد ضخمة ومتنوّعة في معتمدية اللاجئين. وقالت الصحيفة، إنّ المستندات أظهرت وجود 70 وظيفة وهمية، وأزاحت الستار، كذلك، عن تورّط مسؤولين سابقين معروفين في تجاوزات مالية وإدارية.
يُعد الاختلاس من صور الفساد المالي الأكثر انتشارا في مجال الصفقات العمومية عبر جميع مراحلها، كونه ينصبّ على اختلاس الأموال العامة ومحاولة الاستحواذ عليها بكل الطرق والأساليب المتاحة لحيازتها كاملة، وحرمان الدولة منها، حيث بات الاختلاس في وقتنا الحاضر من الانحرافات الشائعة والمتزايدة في الوظيفة العامة، يلجأ إليه الموظفون القائمون على عمليات إبرام الصفقات العمومية من خلال استغلال وظائفهم وإساءة استعمالها على نحو يحقق لهم مصالح مادية هائلة، وصارت صفة ملازمة لهذه الأنظمة وفي السودان تتكرر مثل هذه الاختلاسات وغالبا ما تُكشف في بداية العام الميلادي عندما يقوم المراجع العام بمراجعة الحسابات.
إن هذه الجريمة إنما يمارسها أفراد فقدوا تقوى الله وقيمة التقيد بأحكام الشرع، وهم يمارسون هذه الجريمة النكراء إرضاء لطموحاتهم ورغباتهم الآنية الأنانية ولم يتقيدوا بالحلال والحرام.
ومما ساعد في تفشي هذه الجريمة هو عدم وجود رأي عام ضدها، وعدم تصور الناس أن هذه الأموال التي تُختلس إنما هي أموالهم ويعتبرون هذه الأموال ملكا للدولة فقط لا ناقة لهم فيها ولا جمل! هذا لأن الحكام أصبحوا بعيدين كل البعد عن الأمة وهم لا يمثلونها. ومما ساعد أيضا غياب الرادع الذي يردع المختلس حتى لا يكرر فعلته أو لا يفعلها ابتداء، وقد قيل "من أمن العقاب أساء الأدب"! وكما قال سيدنا عثمان رضي الله عنه وأرضاه: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
وسكوت الدولة هو أيضا مما ساعد على انتشار هذه الجريمة، فالمحافظة على مال الأمة من هؤلاء المجرمين ورعاية شؤونها هو من أوجب واجبات الدولة.
فها هو خليفة المسلمين عمر بن الخطاب كان إذا اشتبه في والٍ أو عامل صادر أمواله التي تزيد عن رزقه المقدر له أو قاسمه عليها، وكان يحصي أموال الولاة والعمال قبل توليتهم وبعد توليتهم، فإن وجد عندهم مالا زائدا أو حصلت عنده شبهة في ذلك صادر أموالهم أو قاسمهم عليها، ويضع ما يأخذه منهم في بيت المال. كما صادر رضي الله عنه من أبي سفيان عندما رجع من عند ابنه معاوية الذي زود أباه بمال عند عودته فقال له عمر: أجزنا يا أبا سفيان، فقال: ما أصبنا شيئا فنجزيك، فمد عمر يده إلى خاتم في يد أبي سفيان فأخذه منه وبعثه مع رسول إلى هند زوجة أبي سفيان وأمر الرسول الذي أرسله إليها أن يقول لها على لسان أبي سفيان: انظري الخرجين اللذين جئت بهما فابعثيهما، فما لبث أن عاد الرسول بخرجين فيهما 10 آلاف درهم فطرحهما عمر في بيت مال المسلمين.
وأيضا من أسباب تفشي هذه الجريمة عدم وجود القدوة الحسنة، فحكام المسلمين اليوم هم من أكثر الفئات سرقة وإهدارا للمال.
جاء في الأخبار (لما فتح المسلمون القادسية أخذوا الغنائم ودفعوها إلى عمر رضي الله عنه، وجيء إليه بتاج كسرى وهو مرصع بالجواهر وبساطه منسوج بالذهب واللآلئ، وكان كسرى إذا جاء يدخل تحت تاجه ويجلس على عرشه وتاجه معلق بسلاسل الذهب؛ لأنه لا يستطيع حمله على رأسه من ثقله وكثرة ما فيه من الذهب والجواهر المرصعة، وملابس كسرى مرصعة بالجواهر، ولما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مقدار ما وصل إليه من أموال إلى المدينة، بكى وحمد الله وقال: "إن قوماً أدوا هذا لأمناء"، فأجابه علي رضي الله عنه: "عففت فعفّوا ولو رتعتَ يا أمير المؤمنين لرتعت رعيتك").
هكذا كان خلفاء المسلمين؛ حريصين كل الحرص على أموال أمة محمد ﷺ لأنهم سخروا أنفسهم خدمة لهذه الأمة يرعون شؤونها بأحكام الإسلام ويحرسون أموالها من الفاسدين.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
عبد الخالق عبدون علي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية السودان