المبادرات في السودان هي لتمكين العسكر والسياسيين وليست لعلاج قضايا البلاد؟
انطلقت بين يومي 13 و14 آب/أغسطس بقاعة الصداقة بالخرطوم فعاليات مؤتمر "المائدة المستديرة" ضمن مبادرة نداء أهل السودان للوفاق الوطني، التي يرعاها الخليفة الطيب الجد، للمساهمة في معالجة الأزمة الراهنة في السودان. وشارك في المؤتمر عدد من الأحزاب السياسية، وسط حضور سفراء الدول وممثلي البعثات الدبلوماسية بالسودان، وقاطعها تحالف الحرية والتغيير "المجلس المركزي"، وهو التحالف الذي كان يحكم البلاد خلال فترة الحكم الانتقالي شريكا للمكون العسكري. ومنذ انقلاب البرهان في تشرين الأول/أكتوبر 2021م قامت مجموعة مبادرات محلية وإقليمية ودولية لتسوية الأزمة السياسية في السوادان، منها مبادرة حزب الأمة ومبادرة مدراء جامعات السودان ومبادرة عقار ومبادرة الثلاثية "الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والإيقاد" وكلها باءت بالفشل.
ولا تختلف كل هذه المبادرات عن مبادرات سابقة، ففكرة المبادرات تهدف لجمع الأطراف المختلفة للحوار ولا يكون القصد من الحوار حل المشكلة المختلف حولها، بل الوصول لمساومات وترضيات. ويتوصل لحل وسط يرضي الجميع وليس لحل المشكلة التي من أجلها كان الحوار. والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فاتفاق أبوجا ونيفاشا والدوحة وجوبا... الخ جمعت أطرافا مختلفة "حكومة وحركات مسلحة" والمشكلة كانت سوء رعاية الشؤون وعدم توفر الحاجات الأساسية لأهل دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق وجنوب السودان، وانتهت بإرضاء الحركات المسلحة والتوصل لحلول وسط وقسمة ثروة وسلطة وظلت مشاكل الأقاليم إلى يومنا هذا.
إن أية مبادرة هي عمل سياسي، والمتابع للصراع بين قادة العسكر والمدنيين وأعمالهم السياسية في صراعهم حول السلطة من انقلاب العسكر ومظاهرات المدنيين، ومبادرات مثل الثلاثية لإنقاذ العسكر من ورطة الانقلاب، كلها فشلت في تحقيق القصد السياسي منها وهو إعطاء العسكر شرعية قانونية وإمساك العسكر بالسلطة والقوة في البلد وإعطاء المدنيين سلطة ناقصة، كما حصل بعد اتفاق الوثيقة الدستورية في 2019م حيث أمسك المكون العسكري برئاسة المجلس السيادي (الذي كان الأصل أن يكون جهة سيادية فقط) ولكن سرعان ما تبين أن مجلس السيادة هو الطرف الأقوى والفاعل في السلطة الذي يقيم العلاقات الخارجية ويعمل للتطبيع المهين مع كيان يهود! وغيرها من الاتفاقيات من أول أسابيع بعد الاتفاق حيث بدأ كل من البرهان وحميدتي جولات خارجية لدول الجوار. وكذلك تعيين وزراء الدفاع والداخلية يكون من المكون العسكري. وعندما اقتربت فترة العسكر من قيادة المجلس السيادي على الانتهاء قاموا بالانقلاب على المدنيين. والآن المحاولات لإرجاع المدنيين للسلطة بصلاحيات أضعف من الأول حتى تتوقف المظاهرات وتستقر البلاد وينال قادة العسكر الشرعية الدولية.
وكان آخر الأعمال السياسية انسحاب العسكر من الحوار تحت رعاية الثلاثية "الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والإيقاد" على لسان البرهان في خطابه في الرابع من تموز/يوليو، وإعلان انسحابهم من الحكم وإعطاء المدنيين فترة زمنية لتشكيل حكومة، ليتم إحراج المدنيين أمام الرأي العام؛ بأن العسكر لا يريدون سلطة وأن المدنيين لا يتفقون، وهم من يعرقل سير البلد والمفاوضات. وأن يشكل مجلس أعلى للأمن والدفاع يضمن به قادة العسكر أن يكونوا فوق السلطة التنفيذية ولا تتم محاسبتهم في أي من القضايا التي اتهموا بها من قتل المتظاهرين وفض اعتصام القيادة العامة.
وبالنسبة لتشكيل الحكومة ورئيس الوزراء أدرك المدنيون أن هذه سلطة ناقصة كما كانت بعد توقيع الوثيقة الدستورية في 2019م وطالبوا بسلطة كاملة وأن يكون رئيس الوزراء تحت تصرفه كل أجهزة الدولة من جيش وشرطة وغيرها من الأجهزة. وهذا ما يرفضه العسكر وما قاموا بالانقلاب لأجله خصوصا عقب تصريحات رئيس وزراء الفترة الانتقالية حمدوك بأنه لا بد من إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية. فلجأ العسكر أخيرا لمبادرة الخليفة الطيب الجد لتشكيل حكومة صورية بينما يمسكون هم بالقوة والسلطة عبر المجلس الأعلى للأمن والدفاع.
وليت هذه الأعمال السياسية هي من بنات أفكار قادة العسكر والمدنيين، إذاً لقلنا إن البلد فيها سياسيون يقومون بأعمال على مستوى عال يخفون الأهداف ويظهرون الأعمال. ولكن للأسف هم أحجار على رقعة شطرنج الدول الكبرى يحركهم المبعوثون وسفارات الدول المستعمرة؛ فطرف تحركه أمريكا، والطرف الآخر تحركه بريطانيا، فالمبادرة يقاطعها فولكر الذي أتى به حمدوك والمدنيون وهو يمثل بريطانيا (أوروبا)، ويجتمع مع الحرية والتغيير في المؤتمر التأسيسي للدستور، الذي عقدته اللجنة التسييرية لنقابة المحامين، والذي تزامن مع المبادرة وجلساتها، حيث وضعوا إطاراً لدستور علماني للبلد وطالبوا بسلطان كامل تكون فيه المؤسسة العسكرية تحت هذا السلطان. بينما نجد السفارة الأمريكية حاضرة في مبادرة الطيب الجد وداعمة لها وكذلك الاتحاد الأفريقي الذي هو أداة لتنفيذ السياسات الأمريكية في أفريقيا أبدى تأييده ودعمه للمبادرة.
فالسودان كغيره من بلاد المسلمين وما تسمى بدول العالم الثالث يشهد صراعا دوليا بين أقطاب الاستعمار القديم (بريطانيا) والمستعمر الجديد (أمريكا)، والمدنيون وقادة العسكر هم أدوات هذا الصراع في السودان.
يحتاج أهل السودان لأن يدركوا ما يحاك لهم من مؤامرات، وأن يلتفوا حول قيادة مخلصة تعمل على انتزاع سلطان أهل البلد من هؤلاء الساسة المأجورين المرتبطين بالغرب الكافر المستعمر، وإقامة نظام حكم مأخوذ من عقيدة أهل البلد وقناعاتهم وأفكارهم؛ نظام الخلافة الذي يقطع نفوذ المستعمرين من بلادنا ونستطيع به رعاية شؤون أهل البلد وحل مشاكله دون تدخلات خارجية تحقق مصالح المستعمر، ومن حلول مأخوذة من عقيدة الإسلام وأحكامه.
وعند النظر لمخرجات مؤتمر "المائدة المستديرة" من زاوية خاصة وهو ما يعرف في السياسة بالوعي السياسي، وهذه الزاوية الخاصة هي المبدأ الذي يؤمن به الناس وعند أهل السودان والمسلمين بصورة عامة هو الإسلام، نجد أن مخرجات المؤتمر أساسها ليس الإسلام مع أنهم بدأوها بالقرآن بقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً﴾، ولكنهم جعلوا القرآن خلف ظهورهم في صياغة المخرجات؛ حيث لم تأت بمعالجات من الإسلام، بل لم تأت بمعالجات جديدة وإنما تكرار لأفكار الحكم والاقتصاد الغربية نفسها، التي هي سبب شقاء الناس.
وأبرز المخرجات كانت اعتماد دستور 2005م العلماني للحكم خلال فترة انتقالية حددت بـ18 شهراً وقيام انتخابات حرة ونزيهة قبل نهاية الفترة الانتقالية.
وإذا أثبتنا أن الأصل في الحكم أن يكون بالإسلام فليس وارد وجود فترة انتقالية بل الأصل تطبيق الإسلام مباشرة من أول يوم. والقصد من فكرة وجود فترة انتقالية هو أن تتمتع الأحزاب السياسية بالسلطة التي هي في نظرهم "كيكة" يستمتعون بها قبل أن ينفرد أحدهم بها بعد الانتخابات. بخلاف نظرة الإسلام للحكم التي هي مسؤولية وأمانة.
أما الانتخابات التي يتحدثون عنها فهي لإضفاء الشرعية لوجودهم غير الشرعي في الحكم، وليس لأن السلطان للأمة، والأصل أن الأمة هي التي تختار حاكمها، فعن عبادة بن الصامت قال: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا...» فقد بويع نبينا ﷺ على الحكم، وكذلك الخلفاء الراشدون، تم اختيارهم من الأمة وبويعوا للخلافة والحكم. بل هم أول من أجرى الانتخابات باعتبارها أسلوباً للاختيار، وغير مرتبط بمبدأ معين، وقد استخدمها المسلمون قبل 1300 عام في اختيار سيدنا عثمان بن عفان خليفة للمسلمين عندما طاف عبد الرحمن بن عوف بيوت المدينة كلها يسألهم من يريدون خليفة للمسلمين عثمان أم علياً رضي الله عنهما.
أما قول أصحاب المبادرة بعدم ترشح رئيس وزراء مزدوج الجنسية، لكي لا يكون هناك ارتهان للخارج فإن المدقق يجد أن الارتهان للخارج لا يتعلق بجنسيات مزدوجة، فكثير من الحكام يرهن البلاد للخارج وهو لا يحمل إلا جنسية بلده، فالمصيبة هي في فتح البلاد لسفارات الدول المستعمرة ومؤسساتها الاستعمارية وليست في جواز السفر.
أما العمل بدستور 2005م ومواءمته مع اتفاقية سلام جوبا، فإن دستور 2005م هو الذي فصل به جنوب السودان وهو دستور علماني كسائر دساتير البلد التي حُكِمنا بها منذ الاستعمار، والذي وضع أسسه القس جون دانفورث المبعوث الأمريكي للسودان في ذلك العام. وقد نص الدستور على أن المواطنة أساس الحقوق والواجبات وليس العقيدة الإسلامية، ونص على أن نظام الحكم في السودان جمهوري ديمقراطي وليس خلافة. ونص على الحريات الغربية الأربع؛ الحرية الشخصية وحرية التملك وحرية العقيدة وحرية الرأي.
وأما اتفاق جوبا فهو قسم السودان لمسارات الشرق والشمال والوسط...الخ تمهيدا لتقسيم البلد على أساس الفيدرالية. إن النص على الفيدرالية ضمن المخرجات فوق كونه مخالفاً للإسلام الذي يوجب وحدة الدولة، فإن الممارسة العملية للفيدرالية هي التي أوجدت التنازع والحروب القبلية، وهي التي أوصلت البلاد إلى شفير الهاوية عندما يتنادى الأفرقاء بحق تقرير المصير في شرق السودان وغربه، والذي به فُصِل جنوبه.
تقويم عمل البعثة الأممية "يونيتامس" وقيل في بعض الأخبار إنهاء أجل البعثة الأممية: وهي بعثة طالب بها رئيس وزراء الفترة الانتقالية حمدوك في 2020م سرا. وانكشفت للرأي العام وكان القصد السياسي منها منع حدوث أي انقلاب على حكومة حمدوك، وهذا ما صرح به عرفان صديق السفير البريطاني للسودان السابق.
هذا غيض من فيض انحراف المبادرة، ودورانها حول حضارة الغرب الكافر المستعمر. ولا حل لأهل السودان يعيد إليهم سلطانهم المغتصب ويعيد للبلاد سيادتها ويقطع نفوذ الكافر المستعمر من بلادنا إلا بتطبيق الإسلام في الحياة عبر دولته الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وليس مبادرات تعيد إنتاج الواقع الذي يخالف الإسلام ويظلم الناس!
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
المهندس باسل مصطفى – ولاية السودان