فن الجريمة!
جريمة القضاء على الثورة السورية مثالاً
كما أن لكل مهنة أو حرفة فناً أو فنوناً فكذلك الجريمة لها أيضا فنون وعلوم. وقد يكون المصطلح غريبا وشاذا عندنا نحن المسلمين لأن ديننا يأمرنا بالابتعاد عن الجرائم كلها ما صغر منها وما كبر، فما بالك بفنون تلك الجريمة؟ ولكن رغم ذلك فإن شعوبنا وبلداننا وللأسف هي أكبر الأماكن التي ترتكب فيها الجرائم بفنون، وربما تكون شعوبنا هي أكثر الضحايا التي ترتكب بحقها الجرائم بفنون وحرفية.
لقد جرت العادة أن يخطر في البال وتحضر المافيا للأذهان حين الحديث عن الجريمة المنظمة أو فنون الجريمة، ولكن في الحقيقة إن المافيا مهما كبرت واتسع نطاق عملها فهي لا تعدل مقدار عشر من مقدار أو نوعية تلك الجرائم المنظمة التي تمارسها الدول الكبرى على شعوب الكرة الأرضية. وكلما كانت الجريمة قد اقترفت بفن أعلى دلت على أن مقترفيها هم من الدول الكبرى عادة، لأن هذه الدول لديها أجهزة متخصصة وعالية الحرفية والدقة في أداء وإخفاء الجرائم التي يرتكبونها دون ترك أي دليل يمكن تعقبه أو اكتشافه بعد اقتراف الجريمة؛ من السي آي إيه وإم آي فايف، وغيرهما...
والدول الكبرى جرائمها تتمثل في سياستها الخارجية. فسياستها الخارجية قائمة على بسط نفوذها وسيطرتها على شعوب ودول العالم الضعيفة. فهي تقوم على مفهوم الاستعمار بشتى أنواعه وأشكاله وألوانه. وهذا الاستعمار هو ما يطلق عليه فن الجريمة أو الجريمة المنظمة وهو موضوع البحث.
فجرائم الدول الكبرى سياسة مشرعة ومدروسة بعناية فائقة وضعها خبراء ومستشارون وأساتذة في كل المجالات، وعلى جميع الأصعدة، إلا أن هؤلاء جميعهم يعملون وينظمون جرائمهم بصورة جماعية ومنظمة وبتقنيات عالية ودقة متناهية ومزركشة ومنمقة بأيديولوجية وأفكار وتضليلات متراكبة تجعل الشعوب في العالم تتقبل ارتكاب مثل هذه الجرائم بشكل طبيعي واعتيادي، بل إن شعوب العالم قد يتم تضليلها لدرجة أن تقوم هي بالدفاع عن جرائم الدول الكبرى وربما دعمها بصورة لا يمكن تخيلها أو تصورها!
ومن الأمثلة الواضحة جدا على الجريمة المنظمة التي تقوم بها أمريكا: جريمة القضاء على الثورة السورية؛ فواقع سوريا قبل الثورة، هو أنها نظام علوي يحكم الشعب السوري بصورة بشعة ودكتاتورية وظلم وفساد تفقير وإذلال منذ أيام حافظ الأسد وإلى اليوم. وهذا النظام بقيادة العلويين يتبع لأمريكا. فأمريكا استطاعت بسط نفوذها على سوريا بعد مجيء حافظ الأسد للحكم. ومنذ ذلك الوقت وسوريا هي إحدى ممتلكات أمريكا في الشرق الأوسط وهي يدها الضاربة هناك. ولتغليف هذه الحقيقة وهذا الواقع غطت أمريكا جرائم هذا النظام بفكرة القومية العربية وبأن سوريا هي جزء من محور ممانعة لدعم المقاومة وتحرير فلسطين، وبعدائه الدعائي والإعلامي فقط لأمريكا والإمبريالية العالمية. وهكذا سوقت أمريكا نظام الأسد المجرم وعبر عقود على أنه نظام قومي ضد كيان يهود ونظام ممانع... وهذا من الترهات التي لا تنطلي إلا على الشعوب النائمة أو المضللة. ومنذ ذلك الحين وأمريكا تسيطر على سوريا وثرواتها عبر عائلة الأسد. وكانت هذه الجريمة الأولى المنظمة والمرتكبة بعناية وحرفية وفن من أمريكا للسيطرة على سوريا عبر عائلة علوية مجرمة ولعقود والقضاء التام على نفوذ بريطانيا هناك.
ولما قامت الثورة السورية لإسقاط هذا النظام الأمني البشع بسبب شدة بطشه وظلمه وقتله للشعب السوري كان لا بد لأمريكا من القضاء على هذه الثورة التي قد تقتلع نفوذها في سوريا بل في المنطقة كلها. فأمريكا لا يهمها الأسد وعائلته، ولكن ما يهم أمريكا هو ما يقوم به نظام الأسد وعائلته من عمل جبار لحماية نفوذ أمريكا هناك. ومن أجل حماية نظام الأسد هناك لا بد من جريمة مكتملة الأركان من قمع للثورة إلى محاولة السيطرة على قاداتها، وبث الخلاف فيها ثم السيطرة عليها، ثم وأدها ثم السير في جنازتها ثم قراءة المشعوذات عليها!
فبعد تعامل الأسد الفظ مع الثورة في بداياتها، الأمر الذي أدى لاتساع الثورة وإشعال فتيلها في كل مدن سوريا كان على أمريكا وضع خطة هي:
1- استخدام الأنظمة والمليشيات التي تعمل بأمر أمريكا أو تسير في فلكها لتدمير الثورة (إيران وحزبها في لبنان ومليشياتها في العراق...)
2- وكان لا بد من غطاء جوي قوي للقيام بالجرائم البشعة والأعمال الوحشية القذرة المكشوفة فاضطرت أمريكا للتنسيق مع روسيا لأسباب كثيرة ليس مقام ذكرها هنا.
3. وكان لا بد أيضا من حاضنة تستقبل المنشقين من الضباط والعساكر والجرحى من الثوار (النظام التركي الذي يسير في فلك أمريكا).
4. لا بد من تأسيس مجلس سياسي للثورة للقيام بالمفاوضات ولترويض الثورة لتقبل بالحل السياسي النهائي.
5. وكان لا بد من تمويل قذر للثورة من أجل شراء ولاء قاداتها، الأمر الذي سيؤدي لاحقا لاقتتالهم وتشرذمهم وسيقوم بهذا الدور (السعودية وتركيا وقطر...).
6. ومن أجل وصم الثورة بالإرهاب والتخريب وبأبشع الأوصاف تم تأسيس تنظيم الدولة.
7. القضاء على معنويات المقاومين والثوار والشعب السوري المسلم البطل عن طريق إذلالهم في المخيمات خارج سوريا فيما يدعى بالدول الصديقة وتجويعهم وتركيعهم ليتم تسليمهم وإرجاعهم فيما بعد لأحضان النظام، والمتاجرة بقضاياهم على كل منبر وفي كل ناد.
هذا مثال على جريمة منظمة تقودها أمريكا عن بعد، اللاعبون فيها كثر وهي دول ومليشيات كل يلعب دوره بدقة:
1. الروس والنظام الإيراني ومليشياته وأحزابه للقتال المباشر ضد الثورة.
2. النظام التركي سيقوم بالجزء الناعم في هذه الخطة وهو أخذ اللاجئين واحتضان قيادات الثورة والسيطرة عليهم ثم إرجاعهم إلى حضن النظام، والمقابل هو الملف الكردي طبعا. وقد يكون الكلام مزعجا للبعض ولكن للأسف هذا هو الدور الناعم للنظام التركي في مخطط أمريكا الكبير لوأد الثورة وتركيعها.
3. الدول الصديقة الأخرى التي كان دورها كسر معنويات الشعب السوري المهجر للتسليم حينما يأتي وقت التسليم والقبول بكل ما تقرره أمريكا من جديد.
4. زركشة كل هذه الجريمة وأركانها واللاعبين فيها بأسماء رنانة وجميلة ومستساغة من جانب الضحية: مساواة، حقوق إنسان، حقوق الطفل والمرأة، ديمقراطية، حق تقرير المصير، الحرية، التعايش والسلام، الخ من أوراق الزينة التي تخفي الجريمة المنظمة. فلا بد لكل جريمة منظمة من مخططين وجناة ومن يغسلون ومن يدفنون الضحية ومن يقرؤون عليها شعوذاتهم.
وجريمة القضاء على الثورة السورية ما هي إلا غيض من فيض وقطرة من بحر من تلك الجرائم المنظمة وفن الجريمة الذي تمارسه الدول الكبرى في سياستها الخارجية المبنية على الاستعمار القائم بصوره المتفاوتة للسيطرة على العالم والشعوب والدول الضعيفة فيه على مختلف الأصعدة والمجالات. فالجريمة المنظمة هي العمل اليومي للسياسة الخارجية للدول الكبرى.
وإلى أن تعي الشعوب المسلمة بل وشعوب العالم الأخرى المضطهدة هذه الحقائق عن السياسة الخارجية للدول الكبرى - وعلى رأسها أمريكا - لن تقوم قائمة لأي ثورة أو أي عمل تغييري. فالوعي السياسي أساس قبل البدء بأي عمل مهما قل أو كثر، مهما صغر أو عظم، حتى تصل إلى الهدف المنشود بأقل الخسائر والتضحيات.
قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
اللهم عجل بفرجك ونصرك لثورة الشام وفلسطين والعراق وباقي بلاد المسلمين أجمعين.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
د. فرج ممدوح