الاستعمار الفرنسي يحتضر فلا تستبدلوا به مستعمراً آخر
فملة الكفر واحدة
لقد أصبح واضحاً لكل المتابعين أن نفوذ فرنسا في مستعمراتها السابقة ينحسر بشكل كبير ومتسارع. والحقيقة أن سجل فرنسا المخزي كان يجب أن يؤدي إلى أن ينفضّ الناس عنها منذ زمن بعيد.
إلا أن الفخ الذي يجب الحذر منه، هو الانتقال من براثن مستعمر إلى آخر، وقد رأينا بعض الشعوب الأفريقية ترفع راية روسيا في وجه ماكرون أثناء جولته الأفريقية الأخيرة، والأرجح أنه ليس من باب انتقال الولاء وإنما فقط من باب النكاية وإهانة ماكرون.
وأيّاً يكن الهدف، فما ينبغي أن يُعلم، هو أن روسيا لا تقل إجراماً عن فرنسا، وحقدها على الإسلام والمسلمين لا يقل عن حقد فرنسا بل قد يفوقه، وقد رأينا جرائمها في الشيشان والشام وأفغانستان، ومن قبلُ حربها الشعواء على دولة الخلافة العثمانية.
لذلك فإن تعويض فرنسا بروسيا أو أمريكا أو الصين هو من باب الاستجارة من الرمضاء بالنار، وهو يدلُّ على سذاجة سياسية.
والأمر نفسه يقال عمّا يجري في المغرب والجزائر، فمن الواضح أن قرار الابتعاد عن فرنسا قد تم اتخاذه من طرف الدوائر السياسية العليا، وقد بدا هذا واضحاً في تشنج العلاقات السياسية، وفي الرغبة في الابتعاد عن اللغة الفرنسية، والاستعاضة عنها باللغة الإنجليزية.
ومرة أخرى نقول إن الابتعاد عن فرنسا ولغتها، لا شك أنه قرارٌ صائب ولا غبار عليه، ولكن لا ينبغي أن يكون الانتقال من اللغة الفرنسية إلى الإنجليزية، ومن التبعية لفرنسا إلى التبعية لبريطانيا أو أمريكا!
إن الولاء يجب أن يكون حصراً لله ورسوله ودينه ولأمة الإسلام، وكل ولاءٍ لمن سواهم هو مخالفة شرعية، قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ثم هو بعد ذلك سذاجة سياسية، وإن اللغة التي يجب أن تدعم وتصبح المرجع هي اللغة العربية، لغة القرآن.
أما إن قيل إن اللغة العربية اليوم ليست هي لغة العلم والتجارة، فنقول إن العيب ليس في اللغة وإنما في أهلها، والرد على هذه النقطة يوشك أن يوقعنا في إشكالية أيُّهما أسبق البيضة أم الدجاجة؟ هل ننتظر أن تتقدم اللغة حتى نتبناها، أم ندعم اللغة حتى يعلو شأنها؟
والصواب أن اللغة العربية لديها من الإمكانيات التكوينية (سعة المصطلحات، دقة التعابير، القدرة على الاشتقاق والتوسع،...) ما يؤهلها لأن تكون وعاءً لكل العلوم، وقد كانت اللغة العربية بالفعل الوعاء شبه الأوحد للعلوم لقرون، ولا شيء يمنع من أن تعود كما كانت إذا نهض أهلها واستعادوا مكانتهم الريادية عالمياً في السياسة والعلم.
إن قوة اللغة من قوة أهلها، فهم يرفعون شأنها أو ينزلون به، فإذا كانت اللغة تملك طاقةً تعبيرية عالية كما هو حال اللغة العربية، فإن ذلك يكون أجدر ألا تشكل عائقاً لتقدم أهلها، بل تعطيهم مرونةً وسلاسةً في التعبير حتى على أعقد الأفكار العلمية، ويكفيها شرفاً أن الله اختارها من بين سائر اللغات لينزل بها معجزة القرآن الخالدة.
إن تبني اللغة العربية، هو أحد ركائز السيادة والاستقلالية للعالم الإسلامي والانعتاق من التبعية للغرب، بالإضافة إلى كونه واجباً شرعياً، إذ إن تحسين إلمام الناس باللغة العربية هو أول خطوة على درب فهم النصوص الشرعية والاستفادة من ثراء التراث الإسلامي ورفع مستوى الفقه عند عامة الناس، بالمقابل فإن إهمال اللغة العربية يؤدي إلى إنتاج أجيال لا تفهم القرآن ولا السنة ولا تملك مقومات الإلمام بالفقه.
كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "أما بعد، فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربي"، وفي أثر آخر عن عمر رضي الله عنه قال: "تعلموا العربية فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم"، وقال أيضا: "تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ؛ فَإِنَّهَا تُثَبِّتُ الْعَقْلَ، وَتَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ"، وربما ينسب القول إلى الشافعي. وروى البيهقي بإسناد صحيح، أن عمر رضي الله عنه قال: "لا تعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم". ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما اعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادةً للمصر وأهله، ولأهل الدار، وللرجل مع صاحبه، ولأهل السوق أو للأمراء، أو لأهل الديوان أو لأهل الفقه، فلا ريب أن هذا مكروه، فإنه من التشبه بالأعاجم" [اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، ج1، ص 526].
إن انكشاف الغطاء عن أعين الناس وإدراكهم لعظم جرائم فرنسا في حق المسلمين، بل وفي حق البشرية، هو فرصة للابتعاد عنها بالكلية، عن لغتها وأفكارها، وعن شركاتها الناهبة، وعن علمانيتها الحاقدة وديمقراطيتها العفنة، والحل الوحيد الأوحد هو العمل على استئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة الراشدة التي تقطع أيدي المستعمرين شرقيهم وغربيهم، وتصفي نفوذهم، وتجعل ولاء المسلمين لله ورسوله ولصالح المسلمين.
نسأل الله أن يجعل ذلك قريباً، وأن يبارك في جهود العاملين له، ويفتح لهم أفئدة الناس.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
محمد عبد الله