الانقلابات في دول أفريقيا، وآخرها في النيجر!
أعلن يوم 2023/7/26 عن انقلاب في النيجر والإطاحة بالرئيس بازوم، وبعد ذلك بيومين أعلن رئيس الحرس الرئاسي عبد الرحمن تشياني عن تنصيب نفسه رئيسا انتقاليا للبلاد. وأعلنت الكثير من الدول ردة فعل منددة، وخاصة الدول الكبرى الاستعمارية أمريكا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وروسيا. وصبّ الانقلابيون ومعهم جماهير من الناس جام غضبهم على فرنسا المستعمرة القديمة، وطالبوا بطردها، وبجلب روسيا، وصرفت الأنظار عن الاستعمار الأمريكي.
فما هي دواعي وتداعيات هذا الانقلاب؟ هل هذه الدول التي تحدث فيها انقلابات تتجه إلى التحرر من الاستعمار؟ أم هي تنتقل من استعمار إلى استعمار؟ وهل هي انقلابات حقيقية أم مصطنعة؟ هل هذه الانقلابات تحقق النهضة؟ وما السبيل إلى التحرر والنهضة؟
نبدأ بهذه التساؤلات لنجيب عليها باختصار، لأن الإجابة عليها بالتفصيل تستغرق صفحات كثيرة:
لقد اضطرت فرنسا للخروج من أفريقيا في نهاية الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي، ولكنها أعطت الاستقلال الشكلي للدول التي كانت تستعمرها، لأن هناك عوامل ثلاثة مؤثرة وجدت بعد إرغام أنف الفرنسيين المتعالي في التراب تحت أقدام الألمان على عهد النازية أثناء احتلالهم لبلادهم فرنسا طوال فترة الحرب العالمية الثانية تقريبا، وأقيمت حكومة فرنسية تابعة لألمانيا، ويذكر أن نحو نصف مليون فرنسي أصبحوا عملاء للألمان. فخرجت فرنسا محطمة الأضلاع من هذه الحرب، لكنها احتفظت بمستعمراتها بمساعدة من أمريكا وبريطانيا. وكانت تدار الحكومة الفرنسية الاستعمارية بقيادة ديغول من لندن.
فأولى هذه العوامل: ظهور أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية كقوة عالمية كبرى تريد أن ترث المستعمرات الغربية من أوروبا، لأنها تعتبر نفسها هي الأحق بهذه الوراثة بسبب أنها أنقذت أوروبا المحطمة، وهي التي تقوم بإعادة البناء فيها، وهي التي تحميها من خطر الاتحاد السوفيتي والشيوعية. فاتخذت المناداة بحرية الشعوب واستقلالها وإنهاء الأنظمة الاستبدادية شعارا لتحقيق هذه الغاية، وصارت تدعم حركات التحرر من الاستعمار بصورة غير مباشرة وعن طريق عملائها وخاصة عبد الناصر في مصر.
وثانيها: ظهور الاتحاد السوفيتي كقوة عالمية ثانية منافسة للغرب وللوجود الغربي في أفريقيا وآسيا خاصة ومهددا لأوروبا الغربية المستعمرة بعدما استحوذ على أوروبا الشرقية وعلى منطقة البلقان الأوروبية. وبدأ ينادي بالتحرر من ربقة الاستعمار الغربي ومحاربته بشدة وبصورة علنية وبات يمول الحركات المقاومة للاستعمار ويدعمها بالسلاح وبالدعاية ويعمل على احتضانها.
وثالثها: وجود رأي عام عالمي ضد الاستعمار وصار مسبة وشتيمة وعاراً، بعدما كانت الدول الأوروبية تتفاخر به وتتسابق عليه وتصف نفسها بالدول الاستعمارية على أساس أن ذلك علامة الرقي والتقدم والقوة. فتغير الحال وسادت فكرة التحرر من الاستعمار والمناداة بتصفيته وتم تبني ذلك في الأمم المتحدة؛ ما اضطر الدول الأوروبية المستعمرة إلى تصفية استعمارها والرحيل عن البلاد. ولكن بريطانيا وفرنسا احتالت كل منهما على الموضوع فأعطت الاستقلال شكليا ونصبت عملاءها ووضعت دساتيرها وبنت جيوشها ومخابراتها ورسمت سياساتها فربطتها بها ربطا محكما، وشكلت بريطانيا الكومنولث وفرنسا الفرانكفونية لتحافظا على نفوذهما في هذه الدول المصطنعة.
ومع ذلك كانت هناك فرصة لأمريكا للولوج في هذه الدول لكونها مستقلة ولو شكليا، وتتصل بأصحاب الذمم الرخيصة فيها من سياسيين وعسكريين وغيرهم لتكسبهم عملاء يعملون لحسابها مقابل تنصيبهم في مناصب معينة وتغدق عليهم بالمال، ونجحت في ذلك، ولكن النفوذ الفرنسي والبريطاني من الصعب قلعه بسبب تركزه خلال عشرات السنين من الاستعمار، ولهذا حصل الصراع الدولي في هذه البلاد وما زال مستمرا ومنه النيجر.
فالنيجر حصلت فيها انقلابات في السابق كانت ضمن دائرة عملاء فرنسا. ولكن حصل انقلاب ضد عميلها محمد تانجا عام 2010 لحساب أمريكا التي نادت بإجراء انتخابات، فانتخب عميلها محمد يوسفو لولايتين من عام 2011 حتى 2021، وقد فتح الباب لأمريكا على مصراعيه لتلج في النيجر، وسمح لها بإقامة قاعدتين عسكريتين يتمركز فيهما أكثر من ألف جندي أمريكي والكثير من الطائرات بدون طيار بذريعة (محاربة الإرهاب)، ولكنه ساير فرنسا التي لها نحو 1500 جندي هناك، ولم يمس نفوذها لئلا يصطدم بها بسبب قوة نفوذها في الوسطين السياسي والعسكري وهي مهيمنة على اقتصاد البلد وتنهب ما فيه من ثروات خاصة اليورانيوم ولا تبقي شيئا لأهل البلد، وكان معه صديقه ورفيق دربه محمد بازوم منذ تأسيس حزبهما الحزب النيجري للديمقراطية والاشتراكية عام 1990، وقد تسلم العديد من الوزارات المهمة.
لقد دعم محمد يوسف صديقه محمد بازوم في انتخابات 2021، والذي تعهد باتباع سياسة سلفه يوسفو، وبالفعل تبع أمريكا وساير فرنسا. وقام يوسفو بتعيين عبد الرحمن تشياني ابن قبيلته الهوسا التي تساوي نصف سكان النيجر رئيسا للحرس الرئاسي ورقاه إلى رتبة جنرال ولم يمر في المراحل التي تؤهله لذلك وقد أغضب ذلك قادة الجيش، فاعتمد عليه في مواجهة الجيش الذي تسيطر عليه فرنسا، ولهذا أحبط تشياني انقلابا ضد يوسفو عام 2015 وأحبط انقلابا آخر ضد بازوم عام 2021 قبل تنصيبه رسميا بيومين بعد فوزه في الانتخابات. ويظهر أنه قد حدثت خلافات بين هذه العناصر الثلاثة مؤخرا إذ أراد بازوم عزل تشياني وتعزيز سلطاته والحد من سلطات يوسفو المهيمن على الحزب وعلى موارد الطاقة والذي فرض ابنه كوزير للطاقة والمعادن على بازوم.
ولهذا لم يكن الموقف الفرنسي واضحا ولا مفهوما في البداية، وكأن هناك ارتباكاً لدى فرنسا لاتخاذ موقف محدد، ويظهر أنها لم تدرك في البداية ما حصل بالضبط، وماهية الانقلاب رغم إدانتها له تماشيا مع الرأي العام المندد للانقلابات على الحكومات المنتخبة. وقد اتضحت الصورة لديها فاتخذت موقفا حاسما وعرفت أن ذلك ضدها، رغم أن بازوم ليس من رجالها ولكنه مساير لها ولنفوذها، فجاء هؤلاء العساكر وحركوا الشارع ضد فرنسا ونفوذها ليطالبوا بطردها على غرار ما حصل في مالي وبوركينا فاسو البلدين اللذين حصل فيهما انقلابان مؤخرا ضد فرنسا لحساب أمريكا وطردت فرنسا من مالي والمطالبة جارية في الدول الأخرى لطردها من هناك.
وقد نددت أمريكا بالانقلاب بشدة لأنه ضد عميلها بازوم، ولكن الانقلابيين هم من عملائها أيضا، فسوف تعمل على توظيف الأمر، وهي مستفيدة من جهة أنه ضد فرنسا، فإذا عاد بازوم فهو من عملائها، وإذا لم يعد فتدعو إلى انتخابات في أسرع وقت ليعود عملاؤها من جديد عن طريق الانتخابات، وربما يرشح عميلها يوسفو الطامع بالعودة نفسه فيفوز مرة أخرى. وهكذا يبقى البلد الإسلامي النيجر من أغنى البلاد بالثروات وشعبه من أفقر الشعوب يئن تحت وطأة الاستعمار.
وهكذا كل بلد في أفريقيا خاصة يحدث فيه انقلاب أو تغيير في الحكام فينتقل النفوذ من استعمار إلى استعمار آخر بواسطة العملاء، ومثل ذلك يحدث في البلاد الإسلامية الأخرى في آسيا.
فالاستعمار منذ أن بدأ بغزو بلادنا مستغلا ضعف دولة الخلافة، ومنذ أن تمكن من هدمها عن طريق العملاء، وهو يجثم على صدور أمتنا وينهب خيراتها ويحول دون تحررها ونهضتها، خاصة وأنه أقام فيها أنظمة تابعة له في كافة المجالات، ويستخدمها كأدوات لمحاربة حملة الدعوة المخلصين الساعين لتحرير الأمة ونهضتها ويعتمد على التضليل الفكري والسياسي للحيلولة دون وجود وعي فكري وسياسي لدى أبناء الأمة ويلمع العملاء أو يصنع منهم أبطالا ليكونوا عملاء كباراً له لا يستطيع أحد المساس بهم وإلا فمصيره السجن أو القتل.
فبدأها من تركيا حاضنة الخلافة، فلمع مصطفى كمال وصنع منه بطلا مزيفا، ليتمكن من هدم الخلافة والشريعة وربط تركيا بالاستعمار في كافة النواحي الفكرية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، وقد أعطاها البريطانيون الاستقلال كأول بلد إسلامي يتحرر شكليا وتقام فيه جمهورية ديمقراطية علمانية تابعة للغرب، ومن ثم بدأ يقيم مثل ذلك جمهوريات وملكيات وإمارات في البلاد الإسلامية الأخرى. وقد حدثت فيها انقلابات ولكن كلها كانت لحساب المستعمرين المتنافسين خاصة أمريكا وبريطانيا فهي داخلة في دائرة الصراع الدولي.
وهكذا تبقى بلادنا الإسلامية كلها ساحة للصراع الاستعماري، إلى أن يتمكن حملة الدعوة المخلصون الواعون من إيجاد الوعي الفكري والسياسي التامين ومن كسب الرأي العام وأهل النصرة والمنعة حتى يحصل الانقلاب الحقيقي والتغيير الحقيقي والتحرير والنهضة الحقيقية في البلاد على أساس مبدأ الإسلام فيتحقق وعد الله سبحانه بالاستخلاف للمؤمنين العاملين الصالحات والتمكين لدينهم وتتحقق بشرى رسول الله ﷺ بعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أسعد منصور