الانقلابات العسكرية في أفريقيا وسيلة استعمارية تتحول بها القوة إلى سلطان
لا يعد الانقلاب الذي حدث مؤخرا في النيجر والذي أطاح بالرئيس محمد بازوم من السلطة استثناء، ولكنه امتداد لسلسلة متواصلة من الانقلابات التي شهدتها منطقة غرب أفريقيا على مدار العقد الماضي؛ فقد سبقته بفترة قليلة 3 انقلابات أخرى في غينيا ومالي وبوركينا فاسو، ناهيك عن المحاولات الانقلابية التي حدثت في أكثر من دولة أفريقية خلال الأعوام الماضية.
إن الانقلابات في أفريقيا، وبخاصة خلال العقد الماضي باتت القاعدة وما دون ذلك هو الاستثناء، وهذا يعيد إلى الأذهان ما كان يجري في القارة السمراء منذ استقلال بلادها من الاستعمار القديم، من انقلابات، ومحاولات انقلابية عديدة، خاصة خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، حين تراجعت وتيرة الانقلابات نسبيا بعد انتهاء الحرب الباردة وأوائل التسعينات من القرن الماضي نتيجة الوعود الغربية بالتحول الديمقراطي والازدهار الاقتصادي، فإن ذلك كان على ما يبدو مجرد استراحة مقاتل، إذ عادت الانقلابات مرة أخرى. بيد أن ثمة ملاحظات وفوارق مهمة بين الانقلابات التي حدثت مؤخرا وتلك التي كانت تحدث في الخمسينات والستينات، وذلك حسب عدة تقارير دولية.
أولى هذه الملاحظات: أن قادة الانقلابات قد يسعون للبقاء في السلطة فترة طويلة، ما لم تحدث انقلابات أخرى تنقلب عليهم، أو يتم تنظيم انتخابات رئاسية تختار فيها شخصيات مدنية.
الملاحظة الثانية: أن معظمها كان لها نوع من التأييد الشعبي، أو على الأقل لم تواجه مقاومة من الشعب أو المعارضة السياسية في البلاد.
كذلك اتسم قادة الانقلابات الأخيرة بالشعبية، كما حدث في انقلاب مالي عام 2020، الذي نال تأييداً مما يقرب من 82% من الشعب المالي، حسب مؤشر "أفروبارميتر"، وذلك بعد أن فقد الشعب الثقة في الرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا الذي تمت الإطاحة به. كما أثرت العقوبات التي فُرضت بعد انقلاب 2021 في مالي على تعزيز الدعم لقادة الانقلاب. وبالمثل، شهد انقلاب كانون الثاني/يناير 2022 في بوركينا فاسو (وهو الانقلاب الخامس خلال العقد) الإطاحة بالرئيس روش كابوري، وقد حظي بدعم شعبي كبير. وكما هو في السودان منذ انقلاب النميري وانقلاب الإنقاذ وانقلاب البرهان الذي يسعى الآن إلى تأييد خارجي وداخلي بزيارته الأخيرة بعد خروجه من القيادة وذهابه إلى بورتسودان ومصر وجنوب السودان وقطر.
الملاحظة الثالثة: هي استخدام قادة الانقلابات خطابا مناهضا للغرب، خاصة الدول الاستعمارية السابقة مثل فرنسا وبريطانيا التي شكلت ركناً أساسياً في خطابات وشعارات قادة الانقلابات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو ومؤخراً في النيجر. وكما كان في انقلاب النميري وانقلاب الإنقاذ في السودان اللذين كانا يتظاهران بمناهضة أمريكا رغم عمالتهما لها. هذا الخطاب مشابه نسبياً لخطابات قادة الانقلابات العسكرية في الخمسينات والستينات التي كانت - في الأساس - ضد المستعمر الأجنبي، خصوصاً فرنسا وبريطانيا. وهذه الخطابات تتميز بالشعبوية وتحريك مشاعر الناس لتبرير الانقلاب، بغض النظر عن النتائج التي قد تنشأ بعدها.
أما الملاحظة الرابعة: فتتعلق بالدور الروسي في الانقلابات الأخيرة في أفريقيا، سواء أكان هذا الدور مباشرا عبر دعم سياسي ودبلوماسي أو عن طريق دعم عسكري وإعلامي من خلال مرتزقة ومليشيات مجموعة فاغنر الروسية الموجودة في قارة أفريقيا والتي تتمتع بنفوذ سياسي وعسكري وإعلامي كبير في منطقة الساحل الأفريقي.
والأكثر من ذلك، هو وجود تقارير عديدة تشير إلى ضلوع موسكو في الانقلابات والمحاولات الانقلابية التي وقعت في أفريقيا خلال السنوات القليلة الماضية. على سبيل المثال، تشير تقارير إخبارية إلى أن الانقلابيين الذين أطاحوا بالرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا تلقوا تدريبات في روسيا قبل عودتهم لتنفيذ الانقلاب في آب/أغسطس 2020. كذلك، تُظهر تقارير أخرى أن روسيا كانت متورطة في الانقلاب الثاني في مالي الذي وقع بعد 9 أشهر أيار/مايو 2021 الذي أدى إلى تولي عاصمي غويتا السلطة في البلاد.
يبدو أن عدوى الانقلابات قد تستمر في انتشارها بأفريقيا كانتشار النار في الهشيم، ولن يكون من الغريب أن نشهد انقلابات متتالية، سواء في منطقة غرب أفريقيا أو في شمالها وشرقها خلال الشهور والسنوات المقبلة. هذا الاتجاه يأتي في ظل التحولات الجارية على مستوى النظام الدولي والصراع المستمر بين القوى الكبرى مثل أمريكا، وروسيا، والصين، التي تسعى لتوطيد نفوذها في القارة الأفريقية.
إن قضية أفريقيا من القضايا الدولية لأنها تتعلق بالدول الكبرى ولذلك فهي تتعلق بالاستعمار الذي من بين الوسائل التي يحافظ بها الاستعمار على نفوذه الانقلابات العسكرية. العجيب أن هناك رأيا عاما ضد الأنظمة الدكتاتورية لدى الدول الكبرى وشعوبها لأنها حكم الفرد وأنظمة باطشة، وتؤيد الأنظمة الديمقراطية ورغم ذلك هي تدعم الأنظمة الدكتاتورية العسكرية، وهذا ظاهر في دول سايكس بيكو، فالحقيقة التي لا مراء فيها أن كلا الأسلوبين (العسكرية والديمقراطية) هي أساليب استعمارية.
ولا يقال إن استلام السلطة في الإسلام يكون عن طريق أهل القوة والمنعة، أليس هذا انقلاباً؟! لا يقال ذلك لأن الانقلاب يكون أهل القوة فيه هم الحكام وتصبح مفاهيم الحكم فيه مفاهيم القوة والتسلط والجبروت بدل مفاهيم رعاية الشؤون.
إن استلام السلطة في أي بلد إما أن يكون عن طريق القوة أي الانقلاب العسكري أو يكون عن تغيير السلطان أي تغيير الأفكار والمشاعر والأنظمة التي ترعى بها شؤون الناس، ومن هنا كان هناك اختلاف بين القوة والسلطان. فالقوة في الدولة ليست لرعاية شؤون الناس ولا تصريف أمورهم.
فهي كيان مادي يتمثل في الجيش ومنه الشرطة ينفذ به السلطان الأحكام ويقهر به المجرمين ويصد به المعتدين. أما السلطان فهو رعاية شؤون الناس بأفكار ومشاعر وأنظمة. فمن هنا كان السلطان غير القوة وإن كان لا يمكن أن يعيش إلا بها. والقوة غير السلطان وإن كان وجودها لا يأتي إلا بها، ولذلك لا يجوز أن يصبح السلطان قوة أو القوة تصبح سلطاناً؛ لأنه إذا تحول السلطان إلى قوة فسدت رعاية شؤون الناس لأن مفاهيمه ومقاييسه هي مفاهيم القهر والتسلط وليست مفاهيم الرعاية. ويتحول الحكم إلى بوليسي ليس له إلا الإرهاب والتسلط وسفك الدماء. وأما إن تحولت القوة إلى سلطان تصبح تحكم الناس بمنطق القوة وترعى شؤون الناس مفاهيم الأحكام العسكرية. وفي كلا الأمرين يوجد الخراب والدمار ويولد الرعب والخوف والفزع عند الأمة، وما حكم العسكر في البلاد العربية والإسلامية والأفريقية إلا شاهد على ذلك.
ولن تنفك أفريقيا والبلاد الإسلامية من الاستعمار إلا بدولة رعاية لا عسكرية تحول القوة إلى سلطان، وإنما دولة رعاية يبايع فيها الحاكم على أساس الإسلام خليفة للمسلمين ليست له حصانة كما في النظام الديمقراطي الغربي المنشأ.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
إبراهيم مشرف
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية السودان