سلسلة أجوبة العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة أمير حزب التحرير
على أسئلة رواد صفحته على الفيسبوك "فقهي"
جواب سؤال
ما يعتبر حجة من القرآن هو ما نقل إلينا بالتواتر
إلى طارق محمود
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شيخي الفاضل، أدام الله عليك الصحة والعافية وأيدك بأقوياء وأتقياء المسلمين وأجرى النصر على يديك، آمين يا رب العالمين.
شيخي الفاضل، وأنا أقرأ في كتب العلماء مرت علي نصوص رواها بعض الصحابة مثل عبد الله بن مسعود أو أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم على اعتبار أن هذه النصوص آيات قرآنية لكن لم تؤخذ ولم تعتبر من القرآن لأنها وردت في خبر آحاد والمعلوم أن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد فهي ظنية الثبوت.
لكن كيف نتعامل مع هذه النصوص كونها صحيحة وردت على لسان من هو ثقة وعدل وضبط، فهي وإن كانت لم تثبت بالتواتر لكنها ثبتت بغلبة الظن، فهل هذه النصوص معتبرة لدى الفقهاء والمجتهدين في إعمالها كنصوص شرعية تستنبط منها أحكام شرعية، أم أنها غير معتبرة وكأنها لم ترد..؟؟
بارك الله بك وعذراً على الإطالة
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
بارك الله فيك على دعائك الطيب لنا، ونحن ندعو لك بالخير.
أما بالنسبة لسؤالك عن القرآن الكريم فقبل الجواب فإني أنقل لك من كتبنا ما يلي:
1- جاء في كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الثالث باب "ما يعتبر حجة من القرآن" ما يلي:
[ما نقل إلينا من القرآن نقلاً متواتراً، وعلمنا أنه من القرآن، هو وحده الذي يكون حجة. وأما ما نقل إلينا منه آحاداً، كمصحف ابن مسعود وغيره، لا يكون حجة؛ وذلك لأن النبي ﷺ كان مكلفاً بإلقاء ما أُنزل إليه من القرآن على طائفة تقوم الحجة القاطعة بقولهم، ومن تقوم الحجة القاطعة بقولهم لا يتصور عليهم التوافق على عدم نقل ما سمعوه، فإذا وجد من القرآن شيء لم ينقله من تقوم الحجة بقولهم، وإنما نقل آحاداً، فإنه لا يعتبر؛ لأنه جاء على خلاف ما كلف به الرسول ﷺ في انفراد الواحد بنقله، وعلى خلاف ما كان عليه إلقاء القرآن من الرسول لعدد من المسلمين يحفظونه، ويكونون ممن تقوم الحجة بقولهم، إلى جانب أمره بكتابته. فلا يتأتى مع هذه الحال انفراد واحد أو عدد لا تقوم الحجة القاطعة بقولهم بنقل شيء من القرآن؛ ولذلك لا يكون ما نقل من القرآن آحاداً حجة مطلقاً.]
- وجاء في المصدر نفسه ما يلي:
[... وأما اختلاف المصاحف، فما كان منها من الآحاد، فليس من القرآن، ولا يكون حجة. وما كان متواتراً، فهو منه، ويكون حجة. فالقضية ليست متعلقة بالمصحف، وإنما متعلقة بالآيات التي يحويها المصحف، فإن كانت الآية نقلت عن الرسول ﷺ نقلاً متواتراً، أي تلقاها عن الرسول ﷺ عدد بلغ حد التواتر، أي تقوم الحجة القاطعة بقولهم، فإنها تعتبر من القرآن، وتكون حجة، وما لم يكن كذلك لا يعتبر من القرآن؛ ولهذا فإن مصحف عثمان كله قرآن؛ لأن جميع الآيات التي يحويها نقلت نقلاً متواتراً، نقلها من تقوم الحجة القاطعة بقولهم، ولكن مصحف ابن مسعود ينظر فيه، فما حواه من الآيات التي نقلت نقلاً متواتراً يعتبر من القرآن، وما حواه من آيات نقلت آحاداً، مثل آية «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» لا يعتبر من القرآن، ولا يكون حجة.
وعليه يُرد الاعتراض الذي ورد بشأن حفاظ القرآن، وبشأن مصاحف الصحابة، ويثبت أن القرآن هو ما نقل نقلاً متواتراً، وما نقل آحاداً ليس من القرآن. ومما يجب لفت النظر إليه، أن القرآن قد نقل بالمشاهدة عن الرسول ﷺ عن الوحي حين نزوله به، وسجل كتابة إلى جانب حفظه. فالصحابة، رضوان الله عليهم، لم يرووا القرآن رواية عن الرسول، وإنما نقلوه نقلاً، أَي نقلوا عين ما نزل به الوحي، وما أمر الرسول ﷺ بكتابته، بخلاف الحديث، فإنه روي عن الرسول ﷺ رواية ولم يسجل حين قوله، ولا حين روايته، وإنما جرى تدوينه وتسجيله في عهد تابعي التابعين. أما القرآن فدون وسجل حين نزول الوحي به، ونقل الصحابة عين ما نزل به الوحي؛ ولهذا يقال: إن الصحابة قد نقلوا لنا القرآن نقلاً.].
2- وجاء في كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الثالث باب "الناسخ والمنسوخ":
[ثانيهما أن المراد نسخ حكم الآية لا نسخ تلاوتها، وهذا القول هو المختار للجمهور وعليه المعول، ويؤيده أن جميع آيات القرآن ثبتت بالدليل القطعي، وما لم تثبت الآية بالدليل القطعي لا تعتبر من القرآن، ولم يثبت بالدليل القطعي نسخ تلاوة آية من آيات القرآن، وما ورد من دليل ظني على وجود نسخ التلاوة لا قيمة له في اعتبار النسخ؛ لأن القطعي لا ينسخ بالظني، ولا ينسخ إلا بالقطعي، مثله أو فوقه، ولم يرد دليل قطعي على نسخ التلاوة وهذا يؤيد أن المراد نسخ الحكم لا نسخ التلاوة.]
- وجاء في المصدر نفسه أيضاً ما يلي:
[وأما نسخ القرآن تلاوة فممنوع، وغير جائز، ولم يثبت وقوعه بالدليل القطعي، والدليل على عدم الجواز، هو أن الآية التي ثبت بها جواز النسخ تقول: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) والقرآن كله خير من غير تفاوت فيه، فلو كان المراد من نسخ الآية إزالتها عن اللوح المحفوظ، وكتابة أخرى بدلها، لما تحقق وصف الخيرية، فمعناه إذن ليس الآية وإنما حكمها. وأيضاً فإن القرآن قد ثبت نزوله وحفظه وكتابته بطريق التواتر، والإيمان به على هذا الوجه عقيدة، وهي لا تؤخذ إلا من الدليل القطعي الثبوت القطعي الدلالة، وهذا لم يحصل إذ لم يأت دليل قطعي يدل على جواز نسخ القرآن تلاوة؛ فلا يجوز نسخه تلاوة. وأما عدم وقوع نسخ القرآن تلاوة فدليله أنه لم يأت دليل قطعي يثبت أن آية من آياته الثابتة بالدليل القطعي قد نسخت، وأما ما روي عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ. فَقَالَ عُمَرُ: لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقُلْتُ: أَكْتِبْنِيهَا» أخرجه أحمد، وما روت عائشة أنها قالت: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ» أخرجه مسلم. وما روي عن أبي بن كعب وابن مسعود أنهما قرءا: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وما روي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة، إلى غير ذلك، فكلها أخبار آحاد لا تقوم الحجة فيها على نسخ القطعي؛ لأنها أخبار ظنية، والقطعي لا ينسخ بالظني، ولا ينسخه إلا القطعي، فلا بد أن يثبت بالدليل القطعي أن هذه الآية نزلت حتى يعتقد أنها من القرآن، ثم يثبت أيضاً بالدليل القطعي أنها نسخت، وهذا ما لم يقع قط، وعليه فإن نسخ القرآن تلاوة غير واقع.]
3- وبناء عليه فهذه أجوبة أسئلتك:
أ- عرف القرآن الكريم كما يلي: (هو كلام الله المنزل على رسوله محمد ﷺ بواسطة الوحي "جبريل" عليه السلام، لفظاً ومعنىً، المعجز، المتعبد بتلاوته والمنقول لنا نقلا متواترا)، فهو القرآن المنزل على سيدنا محمد ﷺ وهو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف نقلاً متواتراً. وهذا التعريف ينطبق تمام الانطباق على مصحف عثمان رضي الله عنه، أي على المصحف الذي نسخ زمن الخليفة الراشد عثمان بن عفان في نسخ عدة من الصحف التي جمعها أبو بكر رضي الله عنه مما كتب بين يدي الرسول ﷺ، وأرسل ما نسخه عثمان رضي الله عنه إلى حواضر المسلمين، وأجمع عليه صحابة الرسول ﷺ كما هو مبين بالتفصيل في كتبنا...
ب- وهذا يعني أن ما نقل إلينا من القرآن من آحاد كمصحف ابن مسعود وغيره ليس بقرآن ولا يكون حجة. وكذلك ليس من السنة لأنه روي على أنه قرآن ولم يرو على أنه من حديث النبي ﷺ، وما دام ليس سُنة، فلا يجوز الاستدلال به في الأحكام الشرعية وسائر الأمور التي ينبغي أن تستنبط من الأدلة الشرعية.
ج- قراءة القرآن بمثل تلك الروايات وبالقراءات الشاذة لا تصح، وقد ذكرنا ما يشير إلى ذلك في جواب سؤال مؤرخ في 18 من ذي القعدة 1434هـ - 24 أيلول/سبتمبر 2013م، وجاء فيه:
[أما قراءة القرآن بالقراءات غير المتواترة، سواء أوافقت خط المصحف العثماني أم لم توافق، فلا تجوز القراءة بها، فهي ليست قرآناً، بل القرآن هو ما نُقل متواتراً عن رسول الله ﷺ].
د- وما دامت هذه النصوص المروية آحاداً على أنها قرآن لم تثبت أنها من القرآن، وكذلك هي لا تُعد سنة عن النبي ﷺ لأنها لم ترو على أنها سنة، فإذن غاية ما يمكن أن تدل عليه هو أن تُعد من باب تفسير الصحابي للقرآن وتبيينه، أي أن تعد قولاً للصحابي الذي رواه في بيان معنى الآية التي تعلقت بها هذه الزيادة أو القراءة، أي هو قرأ الآية ثم فسّرها دون أن يفصل بين الآية وبين تفسيره فنُقلت وراء بعضها فظنّها السامع من القرآن، وهي لم تكن من القرآن بل هي تفسير من الصحابي حسب رأيه، هذا ما يمكن أن تؤول به، ولا يمكن أن تتعدى ذلك بوجه من الوجوه. فتكون قراءة ابن مسعود مثلاً: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات»، بزيادة «متتابعات» قولاً لابن مسعود يبين فيه وجوب التتابع في صوم كفارة اليمين، أي تكون الزيادة بياناً لحكم التتابع وفق رأي ابن مسعود رضي الله عنه، وهذا لا يتعدى أن يكون اجتهاداً وفهماً لصحابي ولا يأخذ حكم الدليل الشرعي من السنة.
هـ- وعليه فكل نص آحاد عن القرآن الكريم يخالف النص القطعي ينظر فيه:
- فإن كان سنده ضعيفاً فيُرد لضعفه.
- وإن كان سنده صحيحاً فيرد دراية لمخالفته القطعي.
4- وأذكر مما جاء في بعض كتب الفقهاء المسلمين عن مثل هذه الأمور، وذلك للعلم:
أ- جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية (ص: 11908) ما يلي:
[- القرآن هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف نقلاً متواتراً، وقيّد بالمصاحف؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم بالغوا في نقله وتجريده عما سواه، حتى كرهوا التعاشير والنقط كي لا يختلط بغيره، فنعلم أن المكتوب في المصحف المتفق عليه هو القرآن، وأن ما هو خارج عنه ليس منه، إذ يستحيل في العرف والعادة مع توافر الدواعي على حفظ القرآن أن يهمل بعضه، فلا ينقل، أو يخلط به ما ليس منه.]
وتتابع الموسوعة الفقهية: [لا خلاف أن كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواتراً في أصله وأجزائه، وأما في محلّه ووضعه وترتيبه فعند المحقّقين من علماء أهل السّنة كذلك، أي يجب أن يكون متواتراً. فقد جاء في مسَلَّم الثّبوت وشرحه فواتح الرحموت: ما نقل آحاداً فليس بقرآن قطعاً، ولم يعرف فيه خلاف لواحد من أهل المذاهب، واستدل بأن القرآن مما تتوفر الدواعي على نقله لتضمّنه التحدّي؛ ولأنه أصل الأحكام باعتبار المعنى والنظم جميعاً حتى تعلق بنظمه أحكام كثيرة؛ ولأنه يتبرك به في كلّ عصر بالقراءة والكتابة، ولذا علم جهد الصحابة في حفظه بالتواتر القاطع، وكلّ ما تتوفر دواعي نقله ينقل متواتراً عادةً، فوجوده ملزوم للتواتر عند الكلّ عادةً، فإذا انتفى اللازم وهو التواتر انتفى الملزوم قطعاً، والمنقول آحاداً ليس متواتراً، فليس قرآناً...] انتهى.
ب- جاء في كتاب (الإتقان في علوم القرآن "1/ 279") للسيوطي ما يلي: [وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ: الْمَقْصِدُ مِنَ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ تَفْسِيرُ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ وَتَبْيِينُ مَعَانِيهَا كَقِرَاءَةِ عَائِشَةَ وحفصة "والصلاة الوسطى صَلَاةِ الْعَصْرِ"، وَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا" وَقِرَاءَةِ جَابِرٍ: "فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لَهُنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ" قَالَ: فَهَذِهِ الْحُرُوفُ وَمَا شَاكَلَهَا قَدْ صَارَتْ مُفَسِّرَةً لِلْقُرْآنِ وَقَدْ كَانَ يُرْوَى مِثْلُ هَذَا عَنِ التَّابِعِينَ فِي التَّفْسِيرِ فَيُسْتَحْسَنُ فَكَيْفَ إِذَا رُوِيَ عَنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ...].
آمل أن يكون هذا الجواب كافياً، والله أعلم وأحكم.
أخوكم عطاء بن خليل أبو الرشتة
22 ذو الحجة 1443هـ
الموافق 21/07/2022م