سلسلة أجوبة العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة أمير حزب التحرير
على أسئلة رواد صفحته على الفيسبوك "فقهي"
جواب سؤال
التشكيك في ليلة القدر
إلى نبيل بالعاطي
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أيدكم الله، يقول أحدهم بأن ليلة القدر هي ليلة نزول القرآن وهي قد مضت ولا وجود لليلة القدر المزعومة حسب قوله وهذا نص المقال: ("أما ليلة القدر هذه فقد عبرت التاريخ مرة واحدة ولا تتكرر. فهي تستمد قَدْرها ـ يعني مكانتها المتميزة ـ من نزول القرآن فيها. قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾. أما غيرها من الليالي المحسوبة خطأ على ليلة القدر فلا محل لها من الإعراب، لأنه لم ينزل فيها قرآن حتى تستمد من هذا النزول قدراً ومكانةً خاصة.
أما لو قال مكابر: إنّا في الواقع نحيي ذكرى ليلة القدر، طالما أن ليلة القدر لا تتكرر. فإنا نقول له: حتى نحتفل بليلة القدر أو نحييها كما طلب الحديث المزعوم، سواء كنا نعتقد أنها ليلة قدر، أم أنها ذكرى ليلة قدر، فلا بد أن يكون لها ميقات واحد معلوم كسائر العبادات من صوم وحج وصلاة، لأن الشارع الحكيم، حينما فرض العبادة أو سنّها، قد حدد لكل منها ميقاتاً معلوماً ثابتاً لا مجال فيه (للتحزير). أما ليلة القدر المزعومة هذه فقد وردت في تحديد ميقاتها أحاديث كثيرة، تجعلها لغزاً من الألغاز...إلخ)
ثم يذكر حديث مسلم ويطعن فيه «يا أيها الناس! إنها كانت أُبينت لي ليلة القدر. وإني خرجت لأخبركم بها، فجاء رجلان يحتّقان معهما الشيطان، فَنُسّيتُها» ويطعن فيه!!
ثم يختم قوله هذا بما يلي: (خلاصة القول إن إحياء ليلة القدر المزعومة، التي لم يكن الرسول نفسه يعرف لها ميقاتاً، ولا شاطئاً محدداً ترسو عليه سفينة التكليف، واعتبار أن من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، هو فكرة تخريبية هدامة، لا تشيع عند المسلمين غير الهلوسة، والهبل، والترخص في الدين") انتهى مقاله...
أفيدونا بارك الله فيكم
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
اطلعت على ما نقلته في سؤالك عن ذلك الشخص الذي يسيء القول حول ليلة القدر وأنها ليلة مضت وانقضت... إلخ، وإليك ما يلي:
أولاً: بالنسبة لطريقة التناول:
1- واضح من النص الذي نقلته أن صاحبه لا ينضبط بأية قواعد علمية أو معارف شرعية، بل هو يخبط خبط عشواء ويرد الأحاديث الكثيرة الصحيحة والحسنة دون سبب موجب إلا ما تمليه عليه أوهام تصورها وجعلها في ذهنه حقيقة يبني عليها ويرد ما ثبت عن رسول الله ﷺ.
2- واضح كذلك من هذا البحث المنقول أنه محاولة للنيل من السنة النبوية المطهرة وتشكيك المسلمين في الأحاديث المروية عن النبي ﷺ مع ادعاء الرجوع إلى القرآن الكريم... وهذا نهج معروف معلوم، وهو نهج قوم يعملون على هدم الإسلام ومحاربته عن طريق محاربة السنة النبوية المطهرة، وهي الموضحة للقرآن الكريم المبينة لمجمله المخصصة لعمومه المقيدة لمطلقه الملحقة فرعاً بأصله... إلخ، فالطعن في السنة النبوية المطهرة والتشكيك في كتب الحديث المعتمدة هو ضرب من الطعن في القرآن والطعن في الإسلام... فالدعوة إلى قصر الاعتماد على القرآن الكريم وحده هي دعوة ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب.
3- وواضح أيضاً من النص المنقول تشكيك صاحبه في الأمور الشرعية المعلومة المسَلَّمة عند المسلمين من عهد النبي ﷺ وصحابته الكرام إلى يومنا هذا، وهذا أيضاً نهج معروف اعتمده المستشرقون الكفار الغربيون الذين أوغلوا بالتشكيك في كل أمر مُسلَّم بدهي عند المسلمين، ثم تابعهم على هذا السير أذنابهم من أبناء المسلمين، فصاروا يشككون بنظام الحكم في الإسلام وبالجهاد وبالإيمان بالقضاء والقدر... إلخ، وذلك لإضعاف ثقة المسلمين بدينهم ومحاولة حرفهم عنه وصرفهم عن الرجوع إليه بعد أن أسقطوا دولته وأبعدوا أحكامه عن التطبيق في حياة المسلمين.
4- وعليه فإن مقاله حول ليلة القدر ليس بحثاً علمياً جاداً أو رأياً واجتهاداً شرعياً معتبراً بل هو نوع من التخرص المنهي عنه والتلاعب بالنصوص الشرعية، والاستهزاء بالأحاديث النبوية... ولذلك فإنه لا يستحق الرد عليه لخلوه من أدنى شروط البحث العلمي النزيه. ولولا أنك أرسلت لنا سؤالاً حوله لما تعرضنا له.
ثانياً: الأدلة من القرآن على ليلة القدر:
يوهم الكاتبُ القارئَ أنه يأخذ بما جاء في القرآن الكريم ويعتمد عليه، ويرُد فقط الأحاديث الواردة بالنسبة لليلة القدر، فهو يقول: (أما ليلة القدر هذه فقد عبرت التاريخ مرة واحدة ولا تتكرر. فهي تستمد قَدْرها - يعني مكانتها المتميزة - من نزول القرآن فيها. قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾.)، وكأنه يوحي بالاعتماد على القرآن الكريم والرجوع إليه، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك...
إنه يذكر الآية الكريمة ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، ويفسرها وفق هواه بما يخدم رأيه، ولكنه لا يذكر سائر النصوص القرآنية التي تدل على خلاف رأيه... وقد ورد النص عن ليلة القدر في موضعين من القرآن الكريم، ويفهم من الموضعين أن ليلة القدر هي ليلة متجددة متكررة:
1- سورة القدر: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾، وبتدبر هذه السورة يتبين أن ليلة القدر هي الليلة التي أنزل فيها القرآن الكريم، وأنها ليست ليلة مضت وانقضت بل هي ليلة تتكرر بفضلها والخير الذي فيها، وقبل ذكر الأدلة التي تدل على ذلك من السورة فإننا نورد تفسيراً مقتضباً للسورة من تفسير النسفي:
[تفسير النسفي (4/ 44، بترقيم الشاملة آليا):
... ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ عظَّم القرآن حيث أسند إنزاله إليه دون غيره. وجاء بضميره دون اسمه الظاهر للاستغناء عن التنبيه عليه ورفع مقدار الوقت الذي أنزله فيه. روي أنه أنزل جملة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم كان ينزله جبريل على رسول الله ﷺ في ثلاث وعشرين سنة. ومعنى ليلة القدر ليلة تقدير الأمور وقضائها...
ولعل الداعي إلى إخفائها أن يُحيي من يريدها الليالي الكثيرة طلباً لموافقتها، وهذا كإخفاء الصلاة الوسطى، واسمه الأعظم، وساعة الإجابة في الجمعة... وفي الحديث: «من أدركها يقول: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي». ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر﴾ أي لم تبلغ درايتك غاية فضلها...] انتهى النقل من تفسير النسفي.
والسورة فيها أكثر من أمر يوضح أن ليلة القدر هي ليلة متكررة تصادف تلك الليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن، ويكفي في ذلك قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾، فالملائكة يتنزلون في هذه الليلة ومعهم جبريل عليه السلام، واستعمل القرآن لفظ المضارع في جملة فعلية ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ﴾ للدلالة على الاستمرار والتجدد ولم يستعمل لفظ الماضي الدال على الانقضاء، وهذا يعني بكل وضوح أن ليلة القدر ليلة متكررة وأن الملائكة في كل سنة في تلك الليلة تنزل ومعها جبريل عليه السلام.
2- قوله تعالى في مطالع سورة الدخان: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾، وقد جاء في النسفي (3/ 302): [... وليلة القدر في أكثر الأقاويل في شهر رمضان. ثم قالوا: أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزل به جبريل في وقت وقوع الحاجة إلى نبيه محمد ﷺ. وقيل: ابتداء نزوله في ليلة القدر. والمباركة الكثيرة الخير لما ينزل فيها من الخير والبركة ويستجاب من الدعاء ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركة ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ﴾ هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان فسر بهما جواب القسم كأنه قيل: أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصاً، لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمة وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم. ومعنى ﴿يُفْرَقُ﴾ يفصل ويكتب كل أمر من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من هذه الليلة إلى ليلة القدر التي تجيء في السنة المقبلة ﴿حَكِيمٍ﴾ ذي حكمة أي مفعول على ما تقتضيه الحكمة، وهو من الإسناد المجازي لأن الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة ووصف الأمر به مجازاً...] انتهى.
وواضح من هذه الآيات أيضاً أن ليلة القدر التي أنزل فيها القرآن هي ليلة متكررة، ويكفي في ذلك قوله تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾، يدل دون شك على أن هذه الليلة يفرق فيها كل أمر حكيم على نحو متكرر لاستعمال القرآن لفظ ﴿فِيهَا يُفْرَقُ﴾ وهو فعل مضارع يدل على الاستمرار والتجدد.
3- وهكذا يفهم من القرآن بوضوح أن ليلة القدر هي ليلة مباركة أنزل فيها القرآن الكريم، وأنها ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، وفيها تتنزل الملائكة والروح بإذن ربهم من كل أمر حيث يفرق فيها كل أمر حكيم أمراً من عند الله، وأن هذه الليلة فيها فضل عظيم إذ يفوق فضل العمل الصالح فيها فضل عمل ألف شهر... وبهذا يظهر أن القرآن الكريم يقرر أن ليلة القدر ليلة متجددة متكررة، وأن الأحاديث النبوية الشريفة الواردة بشأن ليلة القدر إنما جاءت مؤكدة ومقررة ما جاء في القرآن الكريم كما بيناه أدناه، فإن كان صاحب البحث المنقول في الأعلى يقر بالقرآن الكريم وما جاء فيه، فلا مجال عنده إذن لرد تلك الأحاديث الشريفة.
ثالثاً: دلالة السنة المطهرة على ليلة القدر:
1- لقد جاءت أحاديث كثيرة في السنة النبوية وهي تنطق بكون ليلة القدر ليلة متكررة متجددة، ونذكر منها حديثين اثنين يكفيان للدلالة على المطلوب:
أ- روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، وفي رواية أخرى عند البخاري أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، وهذا الحديث منسجم مع ما هو مذكور في القرآن الكريم حول ليلة القدر، وواضح منه أن ليلة القدر متكررة متجددة.
ب- روى الترمذي في سننه عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: «قُولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي»، قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وفي رواية أخرى للحديث عند ابن ماجه وغيره عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ ﷺ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟ قَالَ: «تَقُولِينَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي»، وهذا الحديث أيضاً منسجم تماماً مع ما في القرآن الكريم حول ليلة القدر، وواضح منه أن ليلة القدر متكررة متجددة. هكذا يفهم الحديث على وجهه فنحن مأمورون باتباع السنة كما نحن مأمورون باتباع الكتاب ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾.
2- ثم إن رد الحديث لا يكون على هوى الشخص، أو لجهله عن فهم معناه، أو لحاجة حاقدة في نفسه...إلخ بل يرد الحديث بالطريقة التي جاءت في علوم الحديث وأصول الفقه وهي موضحة في بابها لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد:
إن الحديث يرد رواية ويرد دراية... جاء في كتاب الشخصية الثالث حول هذا الموضوع ما يلي:
[شـروط قبول خبر الآحـاد
يقبل خبر الآحاد إذا استكمل شروطه رواية ودراية. أما شروط قبوله رواية فهي أن يكون راوي الحديث مسلماً، بالغاً، عاقلاً، عدلاً، صادقاً، ضابطاً لما يسمعه، ذاكراً له من وقت حمله إلى وقت أدائه. وقد بيـّن علماء الأصول، وعلماء مصطلح الحديث، شروط الرواية بالتفصيل، وبيـّن تاريخ رجال الحديث ورواتهم، كل راو وما يتحقق فيه من هذه الصفات مفصلاً.
وأما شروط قبول خبر الآحاد دراية فهي أن لا يعارض ما هو أقوى منه من آية أو حديث متواتر أو مشهور... والحاصل أن خبر الآحاد، إذا عارض آية من القرآن، أو حديثاً متواتراً، أو حديثاً مشهوراً، أو علة نص عليها صراحة قرآن، أو متواتر، أو مشهور، لا يقبل الحديث دراية، وإن لم يعارض ذلك يقبل. ولو عارض الحديث القياس، يقبل الحديث، ويرفض القياس.] انتهى
فإذا عرض للشخص حديث لم يعرف أيأخذ به أم يرده، فليسأل من له به علم، فالرسول ﷺ يقول: «أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» أخرجه أبو داود.
هكذا يفعل العاقل الذي يخشى الله ورسوله لا أن يطعن في الحديث أو يستهزئ به وإلا كان له بذلك إثم عظيم. وسنتناول هنا حديثاً كمثال على ذلك حيث طعن به صاحب المقال أو استهزأ به، ومن ثم سوء المنزلة التي تبوأها صاحب المقال:
يستهزئ صاحب المقال بالحديث الذي رواه مسلم في صحيحه حول موعد ليلة القدر وأن النبي ﷺ أري ليلة القدر ثم أنسيها... قائلاً: [كيف ينساها الرسول ﷺ والله تعالى يقول: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ ومعناها سنقرئك فلا تنساها أبدا...] إن هذا الإنسان لا يدرك ما يقول! فالآية هي عن القرآن الكريم، فالله سبحانه يقرئ الرسول ﷺ القرآن الكريم فيحفظه ولا ينساه أبدا، وقد جاء في تفسيرها:
أ- تفسير القرطبي (20/ 18)
قوله تعالى (﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ أي القرآن يا محمد فنعلمكه ﴿فَلَا تَنْسَى﴾ أي فتحفظ، رواه ابن وهب عن مالك.
وهذه بشرى من الله تعالى، بشره بأن أعطاه آية بينة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي، وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه...)
ب- تفسير الطبري (24/ 370)
وقوله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ يقول تعالى ذكره: سنقرئك يا محمد هذا القرآن فلا تنساه، إلا ما شاء الله.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: ﴿فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ فقال بعضهم: هذا إخبار من الله نبيه عليه الصلاة والسلام أنه يعلمه هذا القرآن ويحفظه عليه، ونهي منه أن يعجل بقراءته كما قال جلّ ثناؤه: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾.
وهكذا في غيرهما من التفاسير أن الآية المذكورة هي عن القرآن الكريم، وأما غير ذلك فقد يُنسي اللهُ رسولَه ﷺ أمراً لحكمة يعلمها، ونص الحديث كما في مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ فَلَمَّا انْقَضَيْنَ أَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَقُوِّضَ ثُمَّ أُبِينَتْ لَهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَأَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَأُعِيدَ ثُمَّ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهَا كَانَتْ أُبِينَتْ لِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَإِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِهَا فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ فَنُسِّيتُهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ»، قَالَ قُلْتُ يَا أَبَا سَعِيدٍ إِنَّكُمْ أَعْلَمُ بِالْعَدَدِ مِنَّا قَالَ أَجَلْ نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكُمْ قَالَ قُلْتُ مَا التَّاسِعَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ قَالَ إِذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَهِيَ التَّاسِعَةُ فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ فَإِذَا مَضَى خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ، وقَالَ ابْنُ خَلَّادٍ مَكَانَ يَحْتَقَّانِ يَخْتَصِمَانِ. وهذا الحديث رواه البخاري مختصراً عن عبادة بن الصامت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ: «إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْراً لَكُمْ، التَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالخَمْسِ»، وجاء في شرح الحديث عند ابن حجر في فتح الباري ما يلي:
[... قَوْلُهُ خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ أَيْ بِتَعْيِينِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ قَوْلُهُ فَتَلَاحَى بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّلَاحِي بِكَسْرِهَا وَهُوَ التَّنَازُع والمخاصمة... وَقَوْلُهُ فَرُفِعَتْ أَيْ فَرُفِعَ تَعْيِينُهَا عَنْ ذِكْرِي هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ هُنَا وَالسَّبَبُ فِيهِ مَا أَوْضَحَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ أَيْ يَدَّعِي كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّهُ الْمُحِقُّ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ فَنَسِيتُهَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُخَاصَمَةَ مَذْمُومَةٌ وَأَنَّهَا سَبَبٌ فِي الْعُقُوبَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ أَيِ الْحِرْمَانِ وَفِيهِ أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي يَحْضُرُهُ الشَّيْطَانُ تُرْفَعُ مِنْهُ الْبَرَكَةُ وَالْخَيْرُ...] انتهى.
وبتدقيق النظر في الحديث يتبين أن النبي ﷺ كان لا يعرف متى هي ليلة القدر في رمضان، فاعتكف ﷺ العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر ثم أَمر بنقض البناء الذي بناه ليعتكف فيه، ثم أبينت له ليلة القدر أنها في العشر الأواخر من رمضان ولما أراد أن يخبر الناس بموعدها اختلف رجلان من المسلمين فأُنسي الرسول ﷺ موعد ليلة القدر، وأمر الناس أن يلتمسوها في العشر الأواخر... والنبي ﷺ بين السبب في جعله ينساها وهو اختلاف الرجلين، وفي هذا بيان لمدى خطورة الخصومة والاختلاف في الإسلام وأنها موجبة للعقوبة كما هو مبين في شرح الحديث في الأعلى، وكذلك فإن في الأمر حكمة تناسب العشر الأواخر من رمضان حيث تفتر الهمم، فعدم تعيين ليلة القدر وجعلها في إحدى ليالي العشر الأواخر يدفع الناس إلى الاجتهاد في العشر الأواخر فيحصلون الخير العميم بذلك، وأحسن النسفي بقوله في تفسيره: (ولعل الداعي إلى إخفائها أن يحيي من يريدها الليالي الكثيرة طلباً لموافقتها، وهذا كإخفاء الصلاة الوسطى، واسمه الأعظم، وساعة الإجابة في الجمعة...)، فأين الإشكال في هذا الحديث ليقوم صاحب المقال برده؟ ولماذا لا يصح أن يُنَسّى الرسول ﷺ ما أريه إن كان ذلك لحكمة تقتضيه؟! وواضح أن صاحب النص المنقول تغافل عن هذا السبب وهذه الحكمة حتى يمضي في رفضه ورده لأحاديث ليلة القدر.
وهكذا كل حديث لا يُردُّ لهوى أو لجهل أو لحقد على الإسلام والمسلمين، بل يدرس من أهله وعلى وجهه، ثم يسأل إن لم يعلم كما جاء في حديث رسول الله ﷺ السابق «أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ».
رابعاً: وبهذا كله يتبين أن صاحب النص المنقول لا حظ له من علم المنقول ولا حظ له من المعقول، ولا فقه له في علم الحديث ولا في الأصول، ولا يزن الأمور بميزان صحيح ولا يقيم الأمر على صراط مستقيم، بل يظهر من رأيه محاولة هدم الدين وصرحه وتشكيك المسلمين في أصله وفرعه، ولولا ما كان من السائل من استفسار عن كلامه لما شغلنا أنفسنا في الرد على أوهامه... وإننا في الختام لنسأل الله سبحانه أن يرد كيد الكائدين في نحورهم وأن يقي الأمة من شرورهم، وأن يرفع شأن الدين وينصر عباده المؤمنين ويطفئ نار الكافرين والمنافقين والمغرضين المشككين.
أخوكم عطاء بن خليل أبو الرشتة
08 رمضان 1444هـ
الموافق 2023/03/30م